فلم تجبه فقرّب هو لها البعير واستأخر عنه وقال: اركبي، فركبت. وانطلق بالبعير سريعا يطلب الناس فلم يدركهم، أن كانوا يعجلون سيرهم يريدون المدينة ليستريحوا بها من عناء السير الذي أمر به رسول الله إطفاء للفتنة التي كادت تقوم بسبب حديث ابن أبيّ. ودخل صفوان المدينة في وضح النهار بأعين الناس وعائشة على ظهر بعيره. حتى إذا كانت عند منزلها بين منازل نسوة الرسول دلفت إليه. ولا يجول بخاطر أحد أن يحدّث في أمرها قولا أو أو يثير حول تأخرها عن الركب شبهة، ولا يدور بخاطر الرسول ظنّة سوء في ابنة أبي بكر أو في صفوان المؤمن الحسن الإيمان.
وما كان لحديث أن يدور، وها هي ذي تدخل المدينة بأعين الناس في أعقاب العسكر الذين جاؤا لم يمض بين مجيئهم ومجيئها وقت يحمل على ظنّة أو يبعث إلى نفس ريبة؛ وها هي تدخل بأعين الناس صافية الجبين مشرقة الوجه، ليس في شيء من مظهرها ما يريب. فلتجر إذا شؤون المدينة كما هي وليقتسم المسلمون الأسلاب والغنائم والسبايا مما أسروا من بني المصطلق، ولينعموا بهذه الحياة الرخيّة التي تزداد على الأيام رخاء كلما زادهم إيمانهم على عدّوهم عزّا، وكلما أظفرتهم به عزيمتهم الصادقة واستهانتهم بالموت في سبيل الله وفي سبيل دينه وفي سبيل حرية العقيدة، حرية كان العرب من قبل يأبونها عليهم.
وكانت جويرية بنت الحارث من سبايا بني المصطلق، وكانت امرأة حلوة ملاحة وقد وقعت في سهم أحد الأنصار، فأرادت أن تفتدي نفسها منه، فأغلى الفداء علما منه بأنها ابنة زعيم بني المصطلق، وأن أباها على أداء ما طلب قدير. وخشيت جويرية أثر شططه، فذهبت إلى النبيّ وكان في دار عائشة فقالت: «أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في سهم فلان فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي» . قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو؟ قال: أقضي كتابك وأتزوّجك. فلمّا بلغ الناس الخبر أطلقوا من بأيديهم من أسرى بني المصطلق إكراما لصهر رسول الله إيّاهم، حتى لكانت عائشة تقول عن جويرية: ما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها.
هذه رواية، وتجري رواية أخرى بأن الحارث بن أبي ضرار جاء إلى النبي بفداء ابنته، وأنه أسلم بعد أن آمن برسالة النبيّ، وأنه أخذ ابنته جويرية فأسلمت كما أسلم أبوها فخطبها محمد إليه فزوّجه إيّاها، وأصدقها أربعمائة درهم.
وفي رواية ثالثة: أن أباها لم يكن راغبا في هذا الزواج، بل لم يكن راضيا عنه، وأن أحد أقارب جويرية هو الذي زوّجها من النبيّ على غير إرادة أبيها.
تزوّج محمد من جويرية، وبنى لها منزلا إلى جانب منازل نسائه في جوار المسجد، وأصبحت بذلك من أمهات المسلمين. وبينما هو في شغله بها كان قوم قد بدؤا يتهامسون: ما بال عائشة قد تأخّرت عن المعسكر وجاءت مع صفوان على بعيره، وصفوان شاب وسيم الطلعة مكتمل فتوّة الشباب؟! وكانت لزينب بنت جحش أخت تدعى حمنة، وكانت تعلم ما لعائشة عند محمد من حظوة تقدّمها على أختها فجعلت حمنة هذه تذيع ما يهمس به الناس من أمر عائشة، وكانت تجد من حسّان بن ثابت عونا، ومن عليّ بن أبي طالب سميعا. فأمّا عبد الله بن أبيّ فوجد في هذا الحديث مرعى خصيبا لشفاء ما في نفسه من غلّ وجعل يذيعه جهد طاقته. ولكن جماعة الأوس وقفوا موقف الدفاع عن عائشة، وقد كانت مضرب المثل في الطهر وسموّ النفس وكاد الحديث يؤذي إلى فتنة في المدينة.