ولم يكن محمد خيرا منها مكانا؛ فقد آذاه ما يتحدّث به الناس، حتى اضطرّ آخر الأمر إلى أن يتشاور مع خلصائه ماذا يصنع. فذهب إلى بيت أبي بكر ودعا إليه عليّا وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأمّا أسامة فنفي كل ما نسب إلى عائشة على أنه الكذب والباطل، وأن الناس لا يعرفون كما لا يعرف النبيّ إلّا خيرا. وأمّا عليّ فقال: يا رسول الله، إن النساء لكثير. ثم أشار باستجواب جارية عائشة لعلّها تصدقه. ودعيت الجارية وقام لها عليّ فضربها ضربا موجعا وهو يقول: اصدقي رسول الله، والجارية تقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وتنفي عن عائشة قالة السوء. أخيرا لم يبق أمام محمد إلا أن يواجه زوجه وأن يطلب إليها أن تعترف. ودخل عليها وعندها أبواها وامراة من الأنصار، وهي تبكي والمرأة تبكي معها. وقد هوى الأسى بنفسها إلى أعمق قرارات الحزن من هول ما ترى من ريبة محمد بها. من ريبة هذا الرجل الذي تحبّ وتقدّس؛ والذي به تؤمن وفيه تفنى. فلمّا رأته كفكفت دمعها وسمعت إليه وهو يقول: «يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتّقي الله إن كنت قد قارفت سوآ مما يقولون، فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده» . فما إن أتمّ حديثه حتى ثار في عروقها دمها، وجفّ من عينيها دمعها، وتلّفتت إلى ناحية أمّها وإلى ناحية أبيها تنظر بما يجيبان. لكنهما سكتا فلم ينبسا بكلمة. فازدادت ثورة نفسها وصاحت بهما: ألا تجيبان؟! وقالا: والله ما ندري بم نجيب. وعادا إلى وجومهما. وهنالك لم تملك نفسها دون النّشيج بالبكاء؛ وساعفتها دموعها لتهدئ من الثورة المضطرمة بين ضلوعها تكاد تحرقها. ثم وجّهت الكلام إلى النبي وهي تبكي فقالت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا! إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أني بريئة لأقولنّ ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت لا تصدّقوني. ثم سكتت هنيهة وعادت تقول: إنما أقول كما قال أبو يوسف: «صبر جميل والله المستعان على ما تصفون» .
فترة سكوت تلت هذه الثورة لم يعرف حاضروها أطالت أم قصرت. على أن محمدا لم يبرح مجلسه حتى تغشّاه من الوحي ما كان يتغشاه، فسجّي بثوبه ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه. قالت عائشة: أما أنا فو الله ما فزعت ولا باليت حين رأيت من ذلك ما رأيت، فقد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي. وأما أبواي فما سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى ظننت لتخرجنّ نفساهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. فلما سرّي عن محمد جلس يتصبب عرقا، فجعل يمسحه عن جبينه ويقول: أبشري يا عائشة! قد أنزل الله براءتك. قالت عائشة: الحمد لله! وخرج محمد إلى المسجد فألقى على المسلمين هذه الآيات التي نزلت:
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) (?) . إلى قوله تعالى: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . وفي هذه المناسبة كذلك نزلت عقوبة رمي المحصنات: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (?) .
وتنفيذا لحكم القرآن أمر بمسطح بن أثاثة وحسّان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح