رجع رسل محمد إليه بما رأوا. هنالك عظم البلاء واشتد الخوف، ورأى أهل المدينة طريق قريظة وقد فتح للأحزاب فدخلوا عليهم وأستأصلوهم. ولم يكن ذلك محض خيال ووهم، فهم رأوا قريظة تقطع المدد والميرة عنهم، ورأوا قريشا وغطفان، منذ عاد حييّ بن أخطب ينئبهم بإنضمام قريظة إليهم، قد تغيّرت نفسيّتهم وأخذوا يعدون أنفسهم للقتال. وذلك أن قريظة استمهلت الأحزاب عشرة أيام تعدّ فيها عدتها على أن تقاتل الأحزاب المسلمين في هذه الأيام العشرة أشدّ القتال. وذلك ما فعلوا. فقد ألفوا ثلاث كتائب لمحاربة النبيّ؛ فأتت كتيبة ابن الأعور السلميّ من فوق الوادي، وأتت كتيبة عيينة بن حصن من الجنب، ونصب له أبو سفيان من قبل الخندق. وفي هذا الموقف نزلت هذه الآيات:
(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) (?)
ولأهل يثرب أبلغ العذر إن هم بلغ منهم الفزع وزلزلت قلوبهم. ولمن قال منهم العذر في أن يقول: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وللذين زاغت أبصارهم العذر في أن تزيغ. وللذين بلغت قلوبهم الحناجر العذر في أن تبلغها. أليس هو الموت يرون آتيا بالشرر عينه، مصوّرة في بريق هذه السيوف تلمع في أيدي قريش وفي أيدي غطفان، وتدبّ إلى القلب مخافته متسللة من منازل بني قريظة الغدرة الخائنين! ألا ويل لليهود! ما كان أجدر محمدا بأن يقضي على بني النّضير وأن يستأصلهم بدل أن يذرهم يرتحلون موفورين، وأن يذر حييّا والذين معه يؤلبون العرب على المسلمين ليستأصلوهم. ألا إنها الطامّة الكبرى والفزع الأكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وسمت روح الأحزاب المعنوية، حتى دفعت بعض فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبدودّ، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، أن يقتحموا الخندق، فتيمموا مكانا منه ضيقا فضربوا خيلهم فاجتازته فجالت بهم في السّبحة بين الخندق، وسلع. وخرج عليّ بن أبي طالب في نفر من المسلمين فأخذوا عليهم الثغرة التي اقتحمت منها خيلهم، وتقدم عمرو بن عبدودّ ينادي. من يبارز؟ ولمّا دعاه ابن أبي طالب إلى النزال قال في صلف: لم يا بن أخي! فو الله ما أحبّ أن أقتلك. قال عليّ: لكني أحب والله أن أقتلك.
فتنازلا فقتله عليّ؛ وفرّت خيل الأحزاب منهزمة، حتى اقتحمت الخندق من جديد مولّية الأدبار لا تلوي على شيء. وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة على فرس له بعد ما غربت الشّمس يريد أن يجتاز الخندق، فهوى هو والفرس فيه فصرعا وتحطّما. وأرسل أبو سفيان يعرض دية جثته مائة من الإبل، فرفض النبي عليه السلام وقال: خذوه فإنه خبيث خبيث الدّية.
وأعظمت الأحزاب نيرانها مبالغة في تخويف المسلمين وإضعافا لروحهم، وبدأ المتحمسون من قريظة