ينزلون من حصونهم وآطامهم إلى منازل المدينة القريبة منهم، يريدون إرهاب أهلها. كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان، فمرّبهم يهودي يطيف بالحصن. فقالت صفية مخاطبة حسان: إن هذا اليهودي يطيف يا حسّان بالحصن كما ترى، وإني والله ما آمنه أن يدلّ على عورتنا من وراءنا من اليهود، ورسول الله وأصحابه قد شغلوا عنا، فانزل إليه فاقتله. قال حسّان: يغفر الله لك يا بنة عبد المطلب! والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. فأخذت صفيّة عمودا ونزلت من الحصن وضربت به اليهوديّ حتى قتلته. فلما رجعت قالت: يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. قال حسان: مالي يا بنت عبد المطلب بسلبه من حاجة!
وظلّ أهل المدينة في فزعهم وزلزال قلوبهم، على حين جعل محمد يفكر في الوسيلة إلى الخلاص، ولم تكن الوسيلة مواجهة العدوّ بطبيعة الحال. فلتكن الحيلة إذا. فبعث إلى غطفان يعدها ثلث ثمار المدينة إن هي ارتحلت. وكانت غطفان قد بدأت تملّ، فأظهرت امتعاضا من طول هذا الحصار وما لقوا من العنت أثناءه لغير شيء إلا إجابة حييّ بن أخطب واليهود الذين معه. ثم إن نعيم بن مسعود ذهب بأمر الرسول إلى قريظة، وكانت لا تعرف أنه أسلم، وكان لها نديما في الجاهلية، فذكرهم بما بينه وبينهم من مودّة، ثم ذكر لهم أنهم ظاهروا قريشا وغطفان على محمد، وقريش وغطفان ربما لا تطيقان المقام طويلا فترتحلان فتخليان ما بينهم وبين محمد فينكّل بهم، ونصح لهم ألا يقاتلوا مع القوم حتى يأخذوا منهم رهنا بأيديهم حتى لا تتنحّى قريش وغطفان عنهم. واقتنعت قريظة مما قال. ثم ذهب إلى قريش فأسرّ لهم أن قريظة ندموا على ما فعلوا من نكث عهد محمد، وأنهم عاملون لاسترضائه وكسب مودّته بأن يقدموا له من أشراف قريش من يضرب أعناقهم.
ولذلك نصح لهم إن بعثت إليهم اليهود يلتمسون رهائن من رجالهم ألا يبعثوا منهم أحدا. وصنع نعيم مع غطفان ما صنع مع قريش وحذّرهم مثل ما حذرهم. ودبّت الشبهة من كلام نعيم إلى نفوس قريش وغطفان فتشاور زعمائهم، فأرسل أبو سفيان إلى كعب سيد بني قريظة يقول له: قد يا كعب طالت إقامتنا وحصارنا هذا الرجل، وقد رأيت أن تعمدوا إليه في الغد ونحن من ورائكم فعاد رسول أبي سفيان إليه بقول زعيم قريظة: إن غدا السبت، وإنا لا نستطيع القتال والعمل يوم السبت. فغضب أبو سفيان وصدق حديث نعيم، وأعاد الرسول يقول لقريظة: اجعلوا سبتا مكان هذا السبت، فإنه لا بد من قتال محمد غدا؛ ولئن خرجنا لقتاله ولستم معنا لنبر أن من حلفكم ولنبد أنّ بكم قبل محمد. فلما سمعت قريظة كلام أبي سفيان كررت أنها لا تتعدّى السبت، وقد غضب الله على قوم منهم تعدوه فجعلهم قردة وخنازير. ثم أشاروا إلى الرهائن حتى يطمئنوا لمصيرهم. فلما سمع ذلك أبو سفيان لم يبق لديه في كلام نعيم ريبة، وبات يفكر ماذا عسى أن يصنع؛ وتحدث إلى غطفان فإذا هي تتردّد في الإقدام على قتال محمد متأثرة بما كان قد بدأها به من وعدها ثلث ثمار المدينة وعدا لم يتمّ أن اعترضه سعد بن معاذ وسادة المدينة من الأوس والخزرج ومن أصحاب مشورة رسول الله.
فلما كان الليل عصفت ريح شديدة، وهطل المطر غزيرا، وقصف الرعد، ولمع البرق، واشتدت العاصفة فاقتلعت خيام الأحزاب وكفأت قدورهم وأدخلت الرعب إلى نفوسهم، وخيّل إليهم أن المسلمين انتهزوا فرصة ليعبروا إليهم وليوقعوا فيهم. فقام طليحة بن خويلد فنادى: إن محمدا قد بدأكم بشرّ فالنجاة النجاة. وقال أبو سفيان: «يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكراع (?)