بأناشيد الفوز ويستمتعون باقتسام الغنائم والأسلاب. وماذا عسى أن يمسك غطفان عن أن تعود أدراجها وهي إنما اشتركت في الحرب لأن اليهود وعدتها متى تم النصر، ثمار سنة كاملة من ثمار مزارع خيبر وحدائقها، وها هي ذي ترى النصر غير ميسور، أو هو على الأقل غير محقق، وهو يحتاج من المشقة في هذا الفصل القارس إلى ما ينسيها الثمار والحدائق! فأما انتقام قريش لنفسها من بدر ومما لحقها بعد بدر من هزائم، فأمره مدرك على الأيام ما دام هذا الخندق يحول دون إمساك محمد بالتلابيب، وما دامت بنو قريظة تمدّ أهل يثرب بالمؤونة إمدادا يطيل أمد مقاومتهم شهورا وشهورا. أفليس خيرا للأحزاب أن يعودوا أدراجهم؟! نعم! لكن جمع هؤلاء الأحزاب لجرب محمد مرّة أخرى ليس بالأمر الميسور. وقد استطاع اليهود، وحييّ بن أخطب على رأسهم، أن يجمعوها هذه المرّة للانتقام لأنفسهم من محمد وأصحابه عما أوقع بهم وببني قينقاع من قبلهم. فإن أفلتت الفرصة فهيهات هيهات أن تعود، وإن انتصر محمد بانسحاب الأحزاب فالويل ثم الويل لليهود.
قدر حييّ بن أخطب هذا كله، وخاف مغبّته، ورأى أن لا مفرّ من أن يقامر باخر سهم عنده. فأوحى إلى الأحزاب أنه مقنع بني قريظة بنقض عهد موادعتهم محمدا والمسلمين والانضمام إليهم، وأن قريظة متى فعلت انقطع المدد والميرة عن محمد من ناحية، وفتح الطريق لدخول يثرب من ناحية أخرى. وسرّت قريش وغطفان بما ذكر حيّي، وسارع هو فذهب يريد كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة. وقد أغلق كعب دونه باب حصنه أول ما عرف مقدمه عليه، مقدّرا أن غدر قريظة بمحمد ونقضها عهده وانضمامها إلى عدوه قد يفيده ويفيد اليهود إذا دارت الدوائر على المسلمين، لكنه جدير بأن يمحوها محوا إذا هزمت الأحزاب وانصرفت قواتها عن المدينة. غير أن حييّا ما زال به حتى فتح له باب الحصن ثم قال له: «ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر وببحر طام. جئتك بقريش وبغطفان مع قادتها وسادتها، وقد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه» وتردد كعب وذكر وفاء محمد وصدقه لعهده، وخشي مغبّة ما يدعوه حيّيّ إليه. لكن حييّا ما زال به يذكر له ما أصاب اليهود من محمد وما يوشك أن يصيبهم منه إذا لم تنجح الأحزاب في القضاء عليه، ويصف له قوة الأحزاب وعدتها وعددها، وأنها لم يمنعها غير الخندق أن تقضي في سويعة على المسلمين جميعا، حتى لان كعب له، فسأله: وماذا يكون إذا ارتدّت الأحزاب؟ هناك أعطاه حييّ موثقا إن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن يدخل معه في حصنه فيشركه في حظه. وتحركت في نفس كعب يهوديته فقبل ما طلب ونقض عهده مع محمد والمسلمين وخرج من حياده.
واتّصل نبأ انضمام قريظة إلى الأحزاب بمحمد وأصحابه، فاهتزّوا له وخافوا مغبّته. وبعث محمد سعد بن معاذ سيّد الأوس وسعد بن عبادة سيّد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة بن جبير ليقفوا على جلية الأمر، على أن يلحنوا (?) به عند عودتهم إن كان حقّا حتى لا يفتّوا في أعضاد الناس. فلمّا أتى هؤلاء الرسل ألفوا قريظة على أخبث ما بلغهم عنهم. فلمّا حاولوا ردّهم إلى عهدهم طلب كعب إليهم أن يردوا إخوانهم يهود بني النّضير إلى ديارهم. وأراد سعد بن معاذ، وكان حليف قريظة، أن يقنعها مخافة أن يحلّ بها ما حلّ ببني النضير أو ما هو شرّ منه؛ فانطلقت اليهود ووقعوا في محمد عليه السّلام: وقال كعب: من رسول الله!! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد. وكان الفريقان يتشاتمان.