حيي بن أخطب وتأليبه العرب جميعا على المسلمين- عشرة آلاف مقاتل يقصدون المدينة- سلمان الفارسي يشير بحفر الخندق حولها- حصار قريش وغطفان إياها- نقض بني قريظة عهدهم مع المسلمين- ضياع الثقة بين العرب واليهود- انسحاب العرب عن المدينة- محاصرة بني قريظة القضاء عليهم بالقتل ...
آن للمسلمين بعد إجلائهم بني النّضير عن المدينة، وبعد بدر الآخرة، وبعد غزوتي غطفان ودومة الجندل، أن يركنوا إلى شيء من الطمانينة إلى الحياة بالمدينة. وذهبوا ينظّمون عيشهم، وكان من بعد أقلّ شظفا بما غنموا في غزواتهم هذه، وإن كانت قد صرفتهم في كثير عن الزرع والتجارة. وكان محمد على طمأنينته حذرا دائما غدرة العدوّ، باثّا دائما عيونه وأرصاده في أنحاء شبه الجزيرة ينقلبون إليه من أخبار العرب وما يأتمرون به ما يمهد له دائما فرصة الأهبة لدفاع المسلمين عن أنفسهم. ومن اليسير عليك أن تقدر ضرورة الحذر والحيطة بعد كل الذي رأيت من غدّرات قريش وغير قريش بالمسلمين، ومن أن بلاد العرب كلها كانت في ذلك الحين، وكانت من بعد ذلك في أكثر أطوار تاريخها، أشبه بمجموعة جمهوريات مستقلة كل واحدة منها عن سائرها، تتخذ كل واحدة منها نظاما هو أقرب ما يكون إلى نظام القبائل، وتضطر لذلك إلى الاحتماء بعادات وتقاليد لا يألفها تصورنا في الأمم المنظمة. وكان محمد أشدّ ما يكون حذرا أن كان عربيّا بقدر ما ركّب في الغريزة العربية من الحرص على الثأر. وقد كانت قريش وكان يهود بني قينقاع ويهود بني النضير وعرب غطفان وهذيل والقبائل المتاخمة للشام، تتربص كل واحدة منها بمحمد وأصحابه الدوائر، وتودّ كل واحدة منها لو تستطيع أن تجد الفرصة لإدراك ثارها من هذا الرجل الذي فرق العرب في دينها شيعا، والذي خرج من مكة مهاجرا لا حول له ولا قوّة إلا ما يملأ نفسه الكبيرة من الإيمان، وها هو ذا في خمس سنوات قد أصبح له من الحول ومن القوّة ما جعله مرهوب الجانب من أشدّ مدائن العرب ومن أشدّ قبائلها حولا وقوّة.
ولقد كان اليهود أبصر خصوم محمد بتعاليمه وبمصير دعوته، وكانوا أكثرهم تقديرا لما يصيبهم بانتصاره.
فهم كانوا في بلاد العرب دعاة التوحيد، وكانوا ينافسون المسيحيين في سلطانهم ويأملون مغالبتهم والتغلب عليهم. ولعلهم كانوا على حق أن كانت الساميّة أميل بطبعها إلى فكرة التوحيد، على حين كان التثليث