هذه رواية التاريخ الصحيح في أمر زينب بنت جحش وزواج محمد منها. فهي ابنة عمّته يراها ويعرف مبلغ جمالها قبل أن تتزوج زيدا، وهو الذي خطبها على زيد، وهو كان يراها بعد أن تزوّجت زيدا أن لم يكن الحجاب معروفا يومئذ. على أنه كان من شأنها، بحكم صلة القرابة من ناحية، وأنها زوج دعيّه زيد من ناحية أخرى، أن تتّصل به لمصالحها ولتكرار شكوى زيد منها.
وقد نزلت هذه الأحكام جميعا، فأيدها ما حصل من زواج زيد لزينب وتطليقه إيّاها وزواج محمد منها بعد ذلك؛ هذه الأحكام التي ترفع المعتق إلى مكانة الحرّ الشريف، والتي تبطل حقوق الأدعياء وتقضي عليها بصورة عملية لا محل للبس ولا لتأويل بعدها. أفيبقى بعد ذلك أثر هذه الأقاصيص التي يكرّرها المستشرقون والمبشرون، ويردّدها موير وإرفنج وسبرنجر وفيل ودرمنجم ولا منس وغيرهم ممن تناولوا كتابة حياة محمد؟! ألا إنها شهوة التبشير المكشوف تارة والتبشير باسم العلم أخرى، والخصومة القديمة للإسلام خصومة تأصّلت في النفوس منذ الحروب الصّليبيّة، هي التي تملي على هؤلاء جميعا ما يكتبون وتجعلهم في أمر أزواج النبي، وفي أمر زواجه من زينب بنت جحش خاصة، يتجنون على التاريخ، ويتلمّسون أضعف الروايات فيه مما دسّ عليه ونسب إليه.
ولو أنّ ما ذكروا كان صحيحا، لكان في مقدورنا أن نجبهه بأن العظمة لا تخضع لقانون، وبأن موسى وعيسى ويونس من قبل، قد سموا فوق نواميس الطبيعة وسنن الاجتماع، بعضهم بمولده، وبعضهم في حياته، فلم يطعن ذلك في عظمتهم. لكن محمدا كان يضع سنن الاجتماع بوحي ربه، وكان ينفذّها بأمر ربه، وكان بذلك المثل الأسمى، والأسوة الحسنة، في تنفيذ ما أمر ربه. أفكان أولئك المبشرون يريدونه على أن يطلّق أزواجه فلا يزيد على الأربع كما شرع للمسلمين من بعد زواجه منهنّ جميعا؟ وهل كانوا يومئذ يعفونه من نقدهم؟! على أن معاملة محمد لأزواجه معاملة بلغت من السمو ما رأيت شيئا منه في حديث عمر بن الخطاب الذي سقنا، وسترى كثيرا منه خلال فصول هذا الكتاب، ستكون المثل الناطق على أنه لم يحترم المرأة أحد ما احترمها محمد، ولم يسم بها إلى المكان اللائق بها ما سما محمد.