لمسيحيّ مما لا يسهل على هذه النفس الحاميّة مساغه. وهذا محمد من صميم العرب ومن صميم الساميين، يدعو إلى التوحيد بعبارات قويّة نفاذة تأخذ بمجامع الفؤاد، وتصل إلى أعماق القلب، وتسمو بالإنسان إلى ما فوق نفسه. وها هو ذا قد بلغ من القوّة حتى أخرج بني قينقاع من المدينة، وحتى أجلى بني النّضير عن ديارهم؟
فهل يتركونه وشأنه منصرفين إلى الشام وإلى وطنهم الأوّل بيت المقدس في أرض المعاد، أم تراهم يحاولون تأليب العرب عليه ليأخذوا بالثأر منه؟
كانت فكرة تأليب العرب هي الفكرة التي اختمرت في نفوس أكابر بني النّضير. وتنفيذا لها خرج نفر منهم، ومن بينهم حييّ بن أخطب وسلّام بن ابي الحقيق وكنانة بن أبي الحقيق، ومعهم نفر من بني وائل هوذة بن قيس وأبو عمّار، حتى قدموا على قريش مكة. فسأل أهلها حييّا عن قومه، فقال: تركتهم بين خيبر والمدينة يتردّدون حتى تأتوهم فتسيروا معهم إلى محمد وأصحابه. وسألوه عن قريظة، فقال: أقاموا بالمدينة مكرا بمحمد، حتى تأتوهم فيميلوا معكم. وتردّدت قريش أتقدم أم تحجم؛ فليس بينها وبين محمد خلاف إلا على الدعوة التي يدعو إلى الله. أليس من الممكن أن يكون على حقّ ما دامت كلمته تزداد كل يوم رفعة وسموّا؟! وقالت قريش لليهود: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأوّل وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟! قالت اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (?) .
وفي موقف اليهود هذا من قريش وتفضيلهم وثنيّتهم على توحيد محمد يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه (تاريخ اليهود في بلاد العرب) : «كان من واجب هؤلاء ألّا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وإلّا يصرّحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلاميّ ولو أدّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم؛ لأن بني إسرائيل الذين كانوا مدّة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتّى من الأدوار التاريخية، كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين. هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عبّاد الأصنام إنما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام وبالوقوف منهم موقف الخصومة» .
لم يكف حييّ بن أخطب واليهود الذين معه هذا الذي قالوا لقريش في تفضيل وثنيّتها على توحيد محمد حتى تنشط لمحاربته، وأن يأخذوا وإيّاهم لذلك بعد أشهر موعدا، بل خرج أولئك اليهود إلى غطفان من قيس عيلان، ومن بني مرّة، ومن بني فزارة، ومن أشجع، ومن سليم ومن بني سعد، ومن أسد، ومن كل من لهم عند المسلمين ثأر، وما زالوا بهم يحرّضونهم على الأخذ بثأرهم ويذكرون لهم متابعة قريش إياهم على حرب محمد ويحمدون لهم وثنيّتهم، ويعدونهم النصر لا محالة. وخرجت الأحزاب التي جمع اليهود لحرب محمد