مثل هذه النسبة، إنما دفعهم إلى معجزات البطولة التي أتوا شيء أعظم من مهارة القيادة: ذلك هو الإيمان، الإيمان الصادق بأنهم على الحق. ومن آمن بالحق لم تزعجه قوّة مادية مهما عظمت، ولم تضعضع من عزمته كل قوّات الباطل وإن اجتمعت. وهل رأيت مهارة القيادة وحدها كانت تغني والرّماة الذين وضعهم النبيّ في الشعب لم يكونوا إلا خمسين، فلو أن مائتين أو ثلثمائة رجل هاجموهم مستقتلين لما ثبتوا ولا صبروا أمامهم.
لكن القوّة الكبرى، قوة الفكرة، قوّة العقيدة، قوّة الإيمان الصادق بالحق العلي الأعلى، هذه القوة لا غالب لها ما أراد صاحبها وجه الحق وحده. ولذلك تمزّقت قريش في ثلاثة آلاف من فرسانها أمام هجمات ستمائة مسلم، وأوشكت نسوتها أن يؤخذن أسرى ذليلات. وتبع المسلمون عدوهم يضعون السلاح فيه حيث شاؤا حتى بعد عن معسكره؛ فجعل المسلمون ينتهبون الغنيمة، وما أكثر ما كانت! وصرفهم ذلك عن اتباعه عدوهم ابتغاء عرض الدنيا.
ورآهم الرّماة الذين أمرهم الرسول ألّا يبرحوا الشعب ولو رأوه وأصحابه يقتلون فقال بعضهم لبعض وقد سال لمرأى الغنيمة لعابهم: «لم تقيمون ههنا في غير شيء وقد هزم الله عدوكم وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم، فأدخلوا فأغنموا مع الغانمين» قال قائل منهم: «ألم يقل لكم رسول الله لا تبرحوا مكانكم وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا؟!» قال الأولون! «لم يرد رسول الله أن نبقي بعد أن أذلّ الله المشركين» .
واختلفوا فخطبهم أميرهم عبد الله بن جبير أن لا يخالفوا أمر الرسول، فعصاه أكثرهم وانطلقوا ولم يبق معه إلا نفر دون العشرة. واشترك المنطلقون في النهب وشغلوا كما شغل سائر المسلمين به. إذ ذاك اهتبل الفرصة خالد بن الوليد، وكان على فرسان مكة، فشد برجاله على مكان الرّماة فأجلاهم. ولم يفطن المسلمون لفعله لأنهم شغلوا عنه وعن كل شيء بهذه الغنائم يعبّون منها، حتى ولم يبق رجل منهم وقع في يده شيء إلا أخذه.
وإنهم لكذلك إذ صاح ابن الوليد صيحة أدركت قريش معها أنه دار برجاله وراء جيش المسلمين. عند ذلك عاد منهم كل منهزم فأثخنوا في المسلمين ضربا وقتلا. وهناك دارت الدائرة؛ فألقى كل مسلم ما كان بيده مما انتهب وعاد إلى سيفه يسلّه ليقاتل به. ولكن هيهات هيهات! لقد تفرّقت الصفوف وتمزّقت الوحدة وابتلع البحر اللجي من رجال قريش هذه الصفوة من المسلمين كانت إلى ساعة تقاتل بأمر ربها تنضج عن إيمانها، وهي الساعة تقاتل لتنجو من براثن الموت ومخالب المذلّة. وكانت تقاتل متراصة متضامنة، وهي الآن تقاتل مبعثرة متناكرة. وكانت تقاتل تحت قيادة قوية حازمة حكيمة، وهي الآن تقاتل ولا قيادة لها. فلم يكن عجبا أن توى مسلما يضرب مسلما بسيفه وهو لا يكاد يعرفه. وصاح صائح بالناس: إن محمدا قد قتل، فازدادت الفوضى وعظمت البلبلة، واختلف المسلمون وصاروا يقتتلون ويضرب بعضهم بعضا وهم لا يشعرون لما هم فيه من العجلة والدهش. قتل المسلمون مواطنهم المسلم حسيل بن جابر أبا حذيفة وهم لا يعرفونه. وكان أكبرهم كل مسلم أن ينجو بنفسه إلا من عصم الله من أمثال عليّ بن أبي طالب.
على أن قريشا ما لبثت حين سمعت بمقتل محمد أن تدافعت تدافع السيل إلى الناحية التي كان فيها، وكلّ يريد أن يكون له في قتله أو التمثيل به ما يفاخر الأجيال به. هنالك أحاط المسلمون القريبون بنبيهم يدافعون عنه ويحمونه، وقد عاد الإيمان فملأ نفوسهم وملك قلوبهم وحبب إليهم الموت وهون عليهم الحياة الدنيا.
وزادهم إيمانا واستماتة أن رأوا الحجارة التي تقذفها قريش قد أصابت النبيّ فوقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشجّ في وجهه، وكلمات شفته، ودخلت حلقتان من المغفر الذي يستر به وجهه في وجنته. وكان رامي الحجر الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. وتمالك الرسول وسار وأصحابه من حوله، فإذا به يقع في حفرة حفرها أبو عامر