ليقع فيها المسلمون. هنالك أسرع إليه عليّ بن أبي طالب فأخذ بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى وجعل يسير وأصحابه، متسلقين أحدا ناجين من العدوّ واتّباعه إيّاهم.
وفي لحظة قاموا كان قد اجتمع حولهم من المسلمين من استماتوا في الدفاع عن رسول الله استماتة لا يقهر صاحبها أبدا. كانت أمّ عمارة الأنصارية قد خرجت أول النهار ومعها سقاء فيها ماء تدور به على المسلمين المجاهدين تسقي منهم من استسقى. فلما انهزم المسلمون ألقت سقاءها واستلّت سيفا وقامت تباشر القتال تذبّ عن محمد بالسيف وترمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إليها. وترّس أبو دجانة بنفسه دون رسول الله، فحنى ظهره والنبل يقع فيه. ووقف سعد بن أبي وقاص إلى جانب محمد يرمي بالنبل دونه ومحمد يناوله النبل ويقول له: ارم فداك أبي وأمي. وكان محمد قبل ذلك يرمي بنفسه عن قوسه حتى اندقت سيتها.
هذا، فأمّا الذين ظنوا محمدا قد مات ومن بينهم أبو بكر وعمر فانتحوا الجبل وألقوا بأيديهم. فرآهم أنس بن النّضر فقال: ما يجلسكم قالوا: قتل رسول الله. قال: فما تصنعون بالحياة بعد! قوموا فموتوا على ما مات عليه؛ ثم استقبل القوم فقاتل قتالا شديدا وأبلى بلاء منقطع النظير، حتى إنه لم يقتل إلا بعد أن ضرب سبعين ضربة، وحتى إنه لم يعرفه أحد إلا أخته عرفته من بنانه.
وفرحت قريش بما اعتقدت من موت محمد، فراح أبو سفيان يفتقده في القتلى؛ ذلك بأن الذين كانوا ينضحون عنه عليه السلام لم يكذّب أحد منهم خبر قتله إطاعة لأمره حتى لا تتكاثر عليهم قريش فتغلبهم دونه. على أن كعب بن مالك أقبل إلى ناحية أبي دجانة ومن معه فعرف محمدا حين رأى عينيه تزهران تحت المغفر فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا! هذا رسول الله؛ فأشار النبيّ إليه ليسكت. لكن المسلمين ما لبثوا حين عرفوا أن نهضوا بالنبيّ ونهض هو معهم نحو الشعب، ومن حوله أبو بكر وعمر وعليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام ورهط وغيرهم. وكان لصيحة كعب عند قريش كذلك أثرها. صحيح أن أكثرهم لم يصدّقها وحسبها صيحة أريد بها شدّ عزائم المسلمين. إلا أن بعضهم اندفع وراء محمد والذين ساروا معه.
وقد أدركهم أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا!. فطعنه الرسول بحربة الحارث بن الصّمة طعنة جعلته يتقلب على فرسه ويعود أدراجه ليموت في الطريق. فلما انتهى المسلمون إلى فم الشعب خرج عليّ فملأ درقته ماء، فغسل محمد به الدم عن وجهه وصبّ منه على رأسه؛ ونزع أبو عبيدة بن الجراح حلقتي المغفر من وجه الرسول فسقطت ثنيتاه. وإنهم لكذلك إذ علا خالد بن الوليد على رأس فرسان معه الجبل، فقاتلهم عمر بن الخطاب ورهط من أصحاب الرسول فردّوهم. وازداد المسلمون في الجبل تصعيدا وقد نهكهم التعب وهدّهم الجهد، حتى صلى النبيّ الظهر قاعدا من الجراح التي أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.
فأمّا قريش فطارت بنصرها سرورا، وحسبت نفسها انتقمت لبدر أشدّ الانتقام؛ حتى صاح أبو سفيان: «يوم بيوم بدر والموعد العام المقبل» . وأمّا هند بنت عتبة زوجه فلم يكفها النصر، ولم يكفها قتل حمزة بن عبد المطلب، بل انطلقت هي والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من المسلمين يجد عن الآذان والأنوف، وجعلت هند لنفسها منها قلائد وأقراطا، ثم إنها بقرت بطن حمزة وجذبت بين يديها كبده وجعلت تلوكها