ويقلن:
إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النّمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
واستعدّ الفريقان للقتال وكلّ يحرّض رجاله. فأما قريش فتذكر بدرا وقتلاها. وأما المسلمون فيذكرون الله ونصره. ومحمد يخطب ويحض على القتال، ويعد رجاله النصر ما صبروا. مدّ يده بسيف فقال: من يأخذ هذا السيف بحقّه؟ فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة فقال: وما حقه يا رسول الله؟ فقال: أن تضرب به في العدوّ حتى ينحني. وكان أبو دجانة رجلا شجاعا له عصابة حمراء، إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل وأنه أخرج عصابة الموت. فأخذ السيف وأخرج عصابته وعصب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصفّين على عادته إذ يختال عند الحرب. فلمّا رآه محمد يتبختر قال:
«إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن» .
وكان أوّل من أنشب الحرب بين الفريقين أبو عامر عبد عمرو بن صيفيّ الأوسيّ، وكان قد انتقل من المدينة إلى مكة يحرّض قريشا على قتال محمد، ولم يكن شهد بدرا، فخرج في أحد في خمسة عشر رجلا من الأوس، وفي عبيد أهل مكة؛ وكان يزعم أنه إذا نادى أهله المسلمين من الأوس الذي يحاربون في صفّ محمد، استجابوا له وانحازوا معه ونصروا قريشا: فخرج فنادى: يا معشر الأوس: أنا أبو عامر. فأجابه الأوس المسلمون: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق! ثم نشب القتال بينهم. وحاول عبيد قريش وحاول عكرمة بن أبي جهل، وكان على الميسرة، أن يأخذوا المسلمين من جناحهم، ولكن المسلمين رشقوهم بالحجارة حتى ولّى أبو عامر ومن معه مدبرين. هنالك صاح حمزة بن عبد المطلب صيحة القتال يوم أحد: «أمت، أمت» واندفع إلى قلب جيش قريش. وصاح طلحة بن أبي طلحة حامل لواء أهل مكة: من يبارز! فبرز له عليّ بن أبي طالب والتقيا بين الصفّين، فبادره عليّ بضربة فلقت هامته. واغتبط النبيّ وكبّر المسلمون وشدّوا واندفع أبو دجانة وفي يده سيف النبيّ وعلى رأسه عصابة الموت، فجعل لا يلقي أحدا إلا قتله حتى شقّ صفوف المشركين، فرأى إنسانا يخمش (?) الناس خمشا شديدا، فحمل عليه بالسيف فولول، إذا هند بنت عتبة فارتدّ عنها مكرما سيف الرسول أن يضرب به امرأة.
واندفعت قريش إلى القتال يثور في عروقها طلب الثأر لمن مات من أشرافها وسادتها منذ عام ببدر.
ووقفت بذلك قوّتان غير متكافئتين في العدد ولا في العدّة، يحرّك الكثرة العظيمة ثأر لا يهدأ منذ بدر في النفوس ثائره، ويحرك الفئة القليلة عاملان: الدفاع عن العقيدة وعن الإيمان وعن دين الله، والدفاع عن الوطن وعما يشتمل عليه هذا الوطن من مصالح. فأمّا المطالبون بالثأر فكانوا أعزّ نفرا وأكثر جندا، وكان من ورائهم الظّعن يحرّكنهم، وقد أعدّت غير واحدة منهن مولى وعدته الخير الوفير لينتقم لها ممن فجعها ببدر في أب أو أخ أو زوج أو عزيز. كان حمزة بن عبد المطلب، من أعظم أبطال العرب وشجعانهم، وكان قد قتل يوم بدر عتبة أبا هند، كما قتل أخاها ونكّل بكثير من الأعزّة عليها. وكان يوم أحد كما كان يوم بدر أسد الله وسيفه البتار. قتل أرطأة بن عبد شرحبيل. وقتل سباع بن عبد العزّى الغبشاني. وجعل يهذّ (?) كل من لقي بسيفه فتسيل من