والناس أثناء غيبته هذه في جدل يتحاورون. قال أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وكانا ممن أشاروا بالتحصّن بالمدينة، للذين رأوا الخروج منها: «لقد رأيتم رسول الله يرى التحصن بالمدينة، فقلتم ما قلتم واستكرهتموه على الخروج وهو له كاره، فردّوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه، وما رأيتم له فيه هوى أو رأيا فأطيعوه» . ولان الداعون للخروج لما سمعوا، وحسبوا أنهم خالفوا الرسول إلى شيء قد يكون لله فيه آية. فلما خرج النبي إليهم لابسا درعه متقلدا سيفه أقبل عليه الذين كانوا يرون الخروج فقالوا: «ما كان لنا يا رسول الله أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك؛ والأمر إلى الله ثم إليك» . قال محمد: «قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم. وما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه.
انظروا ما آمركم به فاتّبعوه، والنصر لكم ما صبرتم» . وكذلك وضع محمد إلى جانب مبدأ الشورى أساس النظام. فإذا تمّ للكثرة رأي بعد بحث، لم يكن لها أن تنقضه لهوى أو لغاية، بل يجب أن ينفذ الأمر على أن يحسن من يتولى تنفيذه ويوجهه إلى حيث يتحقق نجاحه.
وتقدّم محمد بالمسلمين متّجها إلى أحد، حتى نزل الشيخين (?) . وهناك بصر بكتيبة لا يعرف أهلها، فسأل عنها فقيل: هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود قال عليه السلام: لا يستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك ما لم يسلموا فانصرف اليهود عائدين إلى المدينة. إذ ذاك جعل حلفاء ابن أبى يقولون له: لقد نصحته وأشرت عليه برأي من مضى من آبائك فكان رأيه مع رأيك، ثم أبى أن يقبله وأطاع الغلمان الذين معه. وصادف حديثهم هوى من نفس ابن أبيّ، فلما أصبحوا انخذل مع كتيبة من أصحابه. وبقي النبيّ ومعه المؤمنون حقّا وعدّتهم، سبعمائة، ليقاتلوا ثلاثة آلاف قرشي من أهل مكة كلهم موتور من يوم بدر، وكلهم على ثأره حريص.
وسار المسلمون مع الصبح حتى بلغوا أحدا، فاجتازوا مسالكه وجعلوه إلى ظهورهم. وجعل محمد يصفّ أصحابه، وقد وضع منهم خمسين من الرماة على شعب في الجبل وقال لهم: «احموا لنا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئونا من ورائنا. والزموا مكانكم لا تبرحوا منه. وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم. وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدافعوا عنا. وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنّبل؛ فإن الخيل لا تقدم على النبل» ؛ ثم نهى غير الرماة أن يقاتل أحد حتى يأمر هو بالقتال.
فأمّا قريش فصفّت صفوفها، وجعلت على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ودفعت اللواء إلى عبد العزّى طلحة بن أبي طلحة. وجعلت نساء قريش يمشين خلال صفوفها يضربن بالدفوف والطبول، فيكنّ تارة في مقدمة الصفوف وتارة في مؤخّرتها، وعلى رأسهن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وهنّ يقلن:
ويها بني عبد الدّار ... ويها حماة الأدبار
ضربا بكل بتّار