السكك. إن مدينتنا يا رسول الله عذراء ما فضّت علينا قطّ، وما دخل علينا عدوّ فيها إلا أصبناه، وما خرجنا إلى عدوّ قطّ منها إلا أصاب منا، فدعهم يا رسول الله وأطعني في هذا الأمر؛ فإني ورثت هذا الرأي عن أكابر قومي وأهل الرأي منهم» .

والقائلون بالخروج للقاء العدو

وكان كلام ابن أبيّ هذا هو رأي الأكابر من أصحاب الرسول من المهاجرين ومن الأنصار، كما كان رأي الرسول عليه السلام. لكن فتيانا ذوي حميّة لم يشهدوا بدرا، ورجالا شهدوها وأمتعهم الله بالنصر فيها وملأ الإيمان قلوبهم أن ليس لقوّة أن تغالبهم أو تتغلّب عليهم، أحبّوا الخروج إلى العدوّ وملاقاته حيث نزل، مخافة أن يظن أنهم كرهوا الخروج وتحصّنوا بالمدينة جبنا عن لقائه. ثم إنهم إلى جانب المدينة وعلى مقربة منها أقوى منهم يوم كانوا ببدر لا يعرف أهلوهم من أمرهم شيئا. قال قائل منهم: «إني لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون حصرنا محمدا في صياصي يثرب وآطامها فتكون هذه مجرّئة لقريش. وها هم هؤلاء قد وطئوا سعفنا فإذا لم نذب عن عرضنا (?) لم يزرع، وإن قريشا قد مكثت حولا تجمع الجموع وتستجلب العرب من بواديها ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاؤنا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا أفيحبسوننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا! لئن فعلنا لازدادوا جرأة، ولشنوا الغارات علينا وأصابوا من أطرافنا، ووضعوا العيون والأرصاد على مدينتنا، ثم لقطعوا الطريق علينا» . وتعاقب الدّعاة إلى الخروج يتحدّث كلّ حديثه، ويذكرون جميعا أنهم إذا أظفرهم الله بعدوهم فذلك الذي أرادوا، وذلك الذي وعد الله ورسوله بالحق، وإن هم انهزموا واستشهدوا كانت لهم الجنة.

وهز حديث الشجاعة وحديث الاستشهاد القلوب، واستنفر روح الجماعة الأنفس لتجري كلها في هذا التيار، ولتتحدث كلها على هذه النغمة، فلم يبق تلك اللحظة أمام الجمع الماثل في حضرة محمد الممتلئ القلب بالإيمان بالله ورسوله وكتابه وحسابه، إلا صورة الظفر بهذا العدوّ المعتدي تفرّقه سيوفهم أيدي سبا، ويبعثه بأسهم بددا شذر مذر، وتستولي أيديهم على مغانمه ومحارمه، وصورة الجنة أعدّت للذين قتلوا في سبيل الله، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين يلقون فيها أحبتهم الذين شهدوا بدرا واستشهدوا فيها، (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) (?) .

قال خيثمة أبو سعد بن خيثمة: «عسى الله أن يظفرنا بهم أو تكون الآخرى فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت عليها حريصا، حتى بلغ من حرصي عليها أن ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه فرزق الشهادة. وقد رأيت ابني البارحة في النوم وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنّة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقّا. وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنّة؛ وقد كبرت سنّي ورقّ عظمي وأحببت لقاء ربي» فلمّا ظهرت الكثرة واضحة في جانب الذين يقولون بالخروج إلى العدوّ وملاقاته قال لهم محمد: إني أخاف عليكم الهزيمة؛ فأبوا مع ذلك إلا الخروج. فلم يكن له إلا أن ينزل على رأيهم. وقد كانت الشورى أساس نظامه لهذه الحياة، فلم يكن يتفرد بأمر إلا ما أوحي إليه من عند الله.

وكان اليوم يوم جمعة، فصلّى النبيّ بالناس، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدّوهم. ودخل محمد بيته بعد صلاة العصر ودخل معه أبو بكر وعمر فعمماه وألبساه درعه وتقلّد سيفه،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015