المدينة، من الناحية السياسية، على بركان لا مفرّ له من أن ينفجر؛ وقد كان حصار بني قينقاع وإجلاؤهم عن المدينة أول مظاهر هذا الانفجار.
كان طبيعيّا أن ينكمش غير المسلمين من أهل المدينة بعد إجلاء بني قينقاع عنها، وأن تبدو من الهدوء والسكينة في المظهر الذي يعقب كل عاصفة وكل إعصار. وعلى هذا الهدوء ظلّ الناس شهرا كاملا كان جديرا أن تتلوه أشهر لولا أن أبا سفيان لم يطق البقاء بمكة، قابعا تحت خزي هزيمة بدر، دون أن يعيد إلى أذهان العرب بشبه الجزيرة أن قريشا ما تزال لها قوّتها وعصبيّتها ومقدرتها على الغزو والقتال. لذلك جمع مائتين، وقيل أربعين، من رجال مكة وخرج فيهم مستخفين؛ حتى إذا كانوا على مقربة من المدينة خرجوا سحرا فأتوا ناحية يقال لها العريض، فوجدوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما، وحرّقوا بيتين بالعريض ونخيلا. ثم رأى أبو سفيان أنّ يمينه بغزو محمد برت، فانكفأ هاربا خائفا أن يطلبه النبيّ وأصحابه. وندب محمد أصحابه فخرجوا في إثره وهو على رأسهم حتى بلغوا قرقرة الكدر، وأبو سفيان ومن معه جادّون في الفرار يتزايد خوفهم فيلقون ما يحملون من زادهم من السّويق، فإذا مر المسلمون به أخذوه. ولمّا رأى محمد أن القوم أمعنوا في الفرار عاد وأصحابه إلى المدينة. وقد انقلب فرار أبي سفيان عليه بعد أن كان يحسب الغزوة ترفع رأس قريش من مصاب بدر. وبسبب السّويق الذي ألفت قريش سميت هذه الغزوة من غزوات محمد غزوة السّويق.
استفاضت أنباء محمد هذه بين العرب جميعا. أمّا القبائل البعيدة عنه فظلت في مأمنها لا تغنى إلا قليلا بأمر هؤلاء المسلمين الذين كانوا إلى يوم بدر- أي إلى أشهر قليلة خلت- أذلّة يلتمسون بالمدينة ملجأ، والذين أصبحوا اليوم يقفون في وجه قريش، ويجلون بني قينقاع، ويرسلون الرعب إلى روع عبد الله بن أبيّ، ويطاردون أبا سفيان، ويظهرون مظهرا لم يكن من قبل مألوفا. فأمّا القبائل القريبة من المدينة فقد بدأت ترى ما يتهدّد مصيرها من قوّة محمد وأصحابه، ومن تعادل هذه القوة وقوّة قريش بمكة تعادلا تخشى نتائجه. ذلك بأن طريق الشاطئ إلى الشام هي الطريق المعبّدة المعروفة. وتجارة مكة في مرورها بها تفيد هذه القبائل فائدة اقتصادية تذكر. وقد عاهد محمد كثير من القبائل التي تتاخم الشاطئ، فهدد هذا الطريق وعرّض رحلة الصيف لمخاطر قد تضطر معها قريش إلى العدول عن متاخمة الشاطئ. فما عسى أن يصيب هذه القبائل إذا انقطعت تجارة قريش؟ وكيف تراهم يحتملون شظف الحياة في هذه البقاع الشديدة الشظف بطبعها؟ فمن حقها إذا أن تفكر في مصيرها وفيما عسى أن يصيبها من أثر هذا الموقف الجديد الذي لم يعرف قبل هجرة محمد وأصحابه إلى يثرب، والذي لم يصل إلى ما وصل إليه من تهديد حياة هذه القبائل قبل بدر وانتصار المسلمين فيها.
لكن بدرا أدخلت الرعب في قلوب هذه القبائل. أفتراها تغير على المدينة وتحارب المسلمين، أم ماذا تراها تصنع؟ بلغ محمدا أن جمعا من غطفان وسليم اعتزم الاعتداء على المسلمين؛ فخرج إلى قرقرة الكدر ليأخذ عليهم الطريق. فلما وصل إلى ذلك المكان رأى آثار النّعم ولم يجد في المجال أحدا؛ فأرسل نفرا من أصحابه في أعلى الوادي وانتظر هو في بطنه. فلقي غلاما اسمه يسار، فسأله فعلم منه أن الجمع ارتفع إلى الماء؛ فجمع المسلمون ما وجدوا من نعم فاقتسموه بعد أن أخذ محمد الخمس، كنص القرآن. قيل: وكان ما