وخرج المسلمون فحاصروا بني قينقاع في دورهم خمسة عشر يوما متتابعة لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم بطعام أحد، حتى لم يبق لهم إلا النزول على حكم محمد والتسليم بقضائه. وسلموا، فقرّر محمد، بعد مشورة كبار المسلمين، قتلهم جميعا فقام إلى عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكان لليهود كما كان للمسلمين حليفا، قال: يا محمد أحسن في مواليّ.
فأبطأ عليه النبيّ فكرّر الطلب، فأعرض النبيّ عنه فأدخل يده في جيب درع محمد، فتغيّر محمد وقال له: أرسلني؛ وغضب حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم أعاد وأثر الغضب في نبرات صوته: «أرسلني ويحك!» .
قال ابن أبي: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ! أربعمائة حاسر وثلثمائة دراع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة! إني والله امرؤ أخشى الدوائر. وكان عبد الله لا يزال ذا سلطان في المشركين من الأوس والخزرج، وإن كان هذا السلطان ضعف بقوة المسلمين. فرأى النبيّ في إلحاحه ما جعله يعود إلى سكينته، وخاصّة بعد إذ جاء عبادة بن الصّامت يحدّثه بحديث ابن أبيّ؛ إذ ذاك رأى أن يسدي هذه اليد إلى عبد الله وإلى المشركين موالي يهود جميعا حتى يصبحوا مدينين لإحسانه ورحمته؛ على أن يجلو بنو قينقاع عن المدينة جزاء لهم على صنيعهم. وقد حاول ابن أبي أن يتحدّث مرة أخرى إلى محمد في بقائهم ومقامهم. ولكن أحد المسلمين حال دون ابن أبيّ ولقاء محمد واشتجرا حتى شجّ عبد الله. فقالت بنو قينقاع: والله لا نقيم ببلد نشجّ فيه يابن أبي ولا نستطيع عنك دفاعا. وعلى ذلك سار بهم عبادة بعد الذي كان من تسليمهم وإذعانهم تاركين المدينة، تاركين وراءهم السلاح وأدوات الذهب الذي كانوا يصوغون، حتى بلغوا وادي القرى. هناك أقاموا زمنا، ومن هناك احتملوا ما معهم، وساروا صوب الشمال حتى بلغوا أذرعات على حدود الشام، وبها أقاموا. ولعلهم إنما استهوتهم إلى الشمال أرض المعاد التي كانت وما تزال تهوي إليها أفئدة اليهود.
ضعفت بالمدينة شوكة اليهود بعد جلاء بني قينقاع عنها. فقد كان أكثر اليهود المنتسبين إلى المدينة يقيمون بعيدا عنها بخيبر وبأمّ القرى. ولهذه النتيجة كان يقصد محمد من إجلائهم. وهذا تصرف سياسيّ آية في الدلالة على الحكمة وبعد النظر. وهو مقدّمة لم يكن منها بدّ للآثار السياسية التي ترتّبت بعد ذلك على خطة محمد؛ فليس شيء أضرّ على وحدة مدينة من المدن من تنازع الطوائف فيها. وإذا كان نضال هذه الطوائف لا بدّ منه فهو لا بدّ منته. إلى تغلب طائفة على سائرها غلبة تنتهي إلى سيادتها. وقد تحدّث بعض المؤرخين منتقدا تصرّف المسلمين إزاء اليهود، زاعما أن حكاية المسلمة التي ذهبت إلى الصائغ كان من اليسير إنهاؤها ما دام قد قتل من المسلمين رجل ومن اليهود رجل، وقد نستطيع دفع هذا القول بأن مقتل اليهوديّ والمسلم لم يمح ما لحق من إهانة في شخص المرأة التي عبث اليهوديّ بها، وأن مثل هذه المسألة عند العرب، أكثر منها عند غيرهم من الأمم، جديرة أن تثور لها الثائرات، وأن يقوم من أجلها القتال بين قبيلتين أو طائفتين سنوات متتابعة. وفي تاريخ العرب من ذلك أمثال يعرفها المطلعون على هذا التاريخ، ولكنّ هنالك إلى جانب هذا الاعتبار اعتبارا آخر أقوى منه. فحادث المرأة كان من حصار بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة ما كان مقتل وليّ عهد النمسا بسيراجيفو سنة 1914 من الحرب الكبرى التي اشتركت فيها أوربا جميعا. هو إنما كان الشرارة التي ألهبت ما تؤجّج به نفوس المسلمين واليهود جميعا لهبا أدّى إلى انفجارها وإلى كل ما يحدث الانفجار من آثار. والحقّ أن وجود اليهود والمشركين والمنافقين إلى جانب المسلمين بالمدينة وما أذكى ذلك من أسباب الفرقة، قد جعل