غنموا خمسمائة بعير أخرج النبي خمسها وقسم الباقي فأصاب كلّ رجل بعيران. وبلغ محمدا أن جمعا من بني ثعلبة ومحارب بذي أمرّ قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطرافه. فخرج عليه السلام في أربعمائة وخمسين من المسلمين، فلقي رجلا من ثعلبة فسأله عن القوم، فدلّه الرجل على مكانهم وقال له: إنهم يا محمد إن سمعوا بمسيرك هربوا في رؤس الجبال، وأنا سائر معك ودالّك على عورتهم. فما لبث المغيرون حين سمعوا باقتراب محمد منهم أن فرّوا فوق الجبال. وبلغه أن جمعا كبيرا من بني سليم ببحران تهيئوا لقتاله؛ فخرج في ثلثمائة رجل فأغذّوا السير، حتى إذا كانوا دون بحران بليلة لقيهم رجل من بني سليم؛ فسأله محمد عنهم فأخبره أنهم تفرّقوا وعادوا أدراجهم. وكذلك كان هؤلاء الأعراب في فزع من محمد وفي قلق على مصيرهم. ما يكادون يفكرون في الكيد لمحمد وفي السير لملاقاته حتى تخلع قلوبهم لمجرد سماعهم بسيره لملاقاتهم.
وفي هذه الأثناء وقع مقتل كعب بن الأشرف على نحو ما قدّمنا، فأصاب اليهود كذلك من الفزع ما جعلهم يلزمون دورهم لا يخرج أحد منهم مخافة أن يصيبه ما أصاب كعبا. وزاد في فزعهم أن أهدر محمد دماءهم بعد الذي كان من أمر بني قينقاع مما أدّى إلى حصارهم. فجاؤا إلى محمد يشكون إليه أمرهم ويذكرون له مقتل كعب غيلة بلا جرم ولا حدث علموه. فكان جوابه لهم: إنه آذانا وهجانا بالشعر ولو قرّ كما قرّ غيره ممن هو على مثل رأيه ما أصابه شرّ. وبعد حديث طال بينهم دعاهم إلى أن يكتب معهم كتابا يحترمونه. وخافت اليهود وذلّت وإن بقي في نفسها من محمد ما بدا من بعد أثره.
ماذا تصنع قريش بتجارتها إلى الشام وقد أخذ محمد عليها طريقها؟ إن مكة تعيش من التجارة، فإذا لم تجد الوسيلة إليها تعرّضت لشرّ ما تتعرّض له مدينة مثلها. وهذا محمد أراد حصارها والقضاء في نفس العرب على مكانتها. وقف صفوان بن أميّة يوما في قريش وقال لهم: «إن محمدا وأصحابه قد عوّروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل وأهل الساحل قد وادعوهم ودخل عامّتهم معه فما ندري أين نسكن. وإن قمنا في دارنا هذه أكلنا رؤس أموالنا فلم يكن لها من بقاء. وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى الحبشة في الشتاء» . قال له الأسود بن عبد المطلب: تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق. ودلّه على فرات بن حيّان من بني بكر بن وائل يدلهم على الطريق. وقال لهم فرات: طريق العراق ليس يطؤها أحد من أصحاب محمد، فإنما هي أرض نجد وفياف. لم يخف صفوان الفيافي أن كان الفصل شتاء وحاجتهم إلى الماء قليلة، وتجهزّ صفوان من الفضة والبضائع بما قيمته مائة ألف درهم. وكان بمكة حين تدبير قريش خروج تجارتها يثربيّ (هو نعيم بن مسعود الأشجعيّ) عاد إلى المدينة وجرى على لسانه ذكر حديث قريش وما صنعت لأحد المسلمين. فأسرع هذا فنقل الخبر إلى محمد. وما لبث النبيّ أن بعث زيد بن حارثة في مائة راكب اعترضوا التجارة عند القردة (ماء من مياه نجد) ففرّ الرجال وأصاب المسلمون العير؛ فكانت أوّل غنيمة ذات قيمة غنمها المسلمون، وعاد زيد ومن معه؛ فخمّسها محمد وقسم ما بقي على رجاله. وجيء بفرات بن حيّان فعرض عليه أن يسلم لينجو، فأسلم ونجا.
هل اطمأن محمد بعد هذا كله إلى أن الأمر قد استقر له؟ هل خدعه يومه عن غده؟ وهل خيّل له فزع القبائل منه وما غنم من قريش أن كلمة الله وكلمة رسوله قد إطمأنت ولم يبق للخوف عليها محلّ؟ وهل جعله