الخطة. أما وقد جعل الإسلام الأخوّة أساس الحضارة الإسلامية، فيجب أن يسلك للنجاح سبله وإن اقتضى ذلك من العنف والشدّة ما لا مفرّ منه.
وهذا الذي صنع المسلمون بأسرى بدر آية في الرحمة وفي الحسنى إلى جانب ما يقع في الثورات التي يتغنّى أهلها بمعاني العدل والرحمة. وهو لا شيء إلى جانب المجازر الكثيرة التي قامت باسم المسيحية من مثل مجزرة سان بارتلمي، هذه المجزرة التي تعتبر سبّة في تاريخ المسيحيّة لا شيء من مثلها قطّ في تاريخ الإسلام. هذه المجزرة التي دبّرت بليل، وقام فيها الكاثوليك يذبحون البروتستنتيين في باريس وفي فرنسا غدرا وغيلة في أحط صور الغدر وأبشع صور الغيلة. فإذا قتل المسلمون اثنين من أسرى بدر الخمسين لأنهم كانوا قساة على المسلمين، مدى الأعوام الثلاثة عشر التي احتمل المسلمون فيها صنوف الأذى بمكة، فقد كان في ذلك من مزيد الرحمة ومن اعتبار الفائدة العاجلة ما نزلت معه الآية: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (?) .
بينما كان المسلمون في فرحهم بنصر الله وما أفاء عليهم من المغانم كان الحيسمان بن عبد الله الخزاعيّ يحثّ الطريق إلى مكة، حتى كان أول من دخلها وأخبر أهلها بهزيمة قريش ومصابها في كبرائها وأشرافها وسادتها. وقد ذهلت مكة أول الأمر فلم تصدّق الخبر. وكيف لا تذهل وهي تسمع أخبار هزيمتها ومقتل السادة الأشراف منها! لكن الحيسمان لم يكن يهذي وكان يؤكد ما يقول وهو أشد من قريش جزعا لما أصابهم.
فلما استوثقوا من روايته خرّوا صعقين، حتى لقد حم أبو لهب ومات بعد سبعة أيام. وتشاورت قريش ما تصنع فأجمعت على ألا تنوح على قتلاها مخافة أن يبلغ محمد وأصحابه فيشمتوا بهم، وألّا تبعث في أسراها حتى لا يأرب (?) عليها محمد وأصحابه ويغلوا في الفداء. وانقضى زمن وقريش صابرة على محنتها، حتى سنحت فرصة افتدائها أسراها. إذ ذاك قدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو. وكأنما عز على عمر بن الخطاب أن يفتدى وينجو من غير أن يصيبه مكروه، فقال: يا رسول الله، دعني أنزع ثنيّتي سهيل بن عمرو فيدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا. فكان جواب النبي هذا الجواب البالغ غاية السمو: لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيّا.
وبعثت زينب ابنة النبي تفتدي زوجها أبا العاص بن الربيع، وكان فيما بعثت قلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها. فلما رآها النبي رق لها رقة شديدة، فقال إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا. ثم إنه اتفق فيما بينه وبين أبي العاص على أن يفارق زينب وقد فرّق الإسلام بينه وبينها. وبعث محمد زيد بن حارثة وصاحبا معه فجاء بها إلى المدينة. على أن أبا العاص ما لبث بعد مدة إساره أن خرج إلى الشام في مال قريش؛ حتى إذا كان على مقربة من المدينة لقيته سرية لمحمد فأصابوا ما معه.
فانحدر تحت الليل إلى أن دخل على زينب واستجارها فأجارته، ورد المسلمون على الرجل ماله فانطلق به آمنا إلى مكة فلما رده لأصحابه من قريش قال: يا معشر قريش! هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: