تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (?) وأن قال: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (?) ، ومثله في الأنبياء كمثل عيسى إذ يقول: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (?) .

ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على أعداء الله. ومثله في الأنبياء كمثل نوح إذ يقول: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (?) وكمثل موسى إذ يقول: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (?) . ثم قال: وإن بكم عيلة؛ فلا يفوتنّكم رجل من هؤلاء إلا بفداء أو ضربة عنق. وتشاور القوم فيما بينهم وكان من بين الأسرى شاعر، هو أبو عزّة عمرو بن عبد الله بن عمير الجمحيّ، رأى خلاف القوم واستعجل النّجاة فقال: لي خمس بنات ليس لهنّ شيء فتصدّق بي عليهنّ يا محمد، وإني لمعطيك موثقا لا أقاتلك ولا أكثر عليك أبدا. فأمّنه النبيّ وأرسله من غير فداء، وكان هو وحده الأسير الذي ظفر بهذا الأمان. على أنه ما لبث أن نكث عهده، وأن عاد فقاتل بعد عام في أحد.

فأسر وقتل. وظلّ المسلمون في تشاورهم زمنا انتهوا بعده إلى قبول الفداء. وفي قبولهم نزلت هذه الآية الكريمة: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (?) .

جدال المستشرقين

يقف غير واحد من المستشرقين عند أسرى بدر هؤلاء وعند مقتل النّضر وعقبة ويتساءلون: أليس في ذلك ما يدل على ظمأ هذا الدين الجديد إلى الدم ظمأ لولاه لما قتل الرجلان، ولكان أكرم للمسلمين بعد أن كسبوا الموقعة أن يردّوا الأسرى وأن يكتفوا بالفيء الذي غنموا؟ وذلك تساؤل الذي يريد أن يثير في النفوس عوامل إشفاق لم يكن له يومئذ موضع، ليكون له بعد ألف سنة من هذه الغزوة وما تلاها من غزوات وسيلة للنّيل من الدين ومن صاحب الدين. على أن هذا التساؤل ما يلبث أن ينهار ويتداعي إذا نحن وازنا بين مقتل النضر وعقبة، وما يجري اليوم وما سيجري دائما ما دامت الحضارة الغربية، التي تتّشح بوشاح المسيحية، متحكمة في الأرض. فهل تراه يوازي شيئا إلى جنب ما يقع باسم قمع الثورات في بلاد يحكمها الاستعمار على كره من أهلها! وهل تراه يوازي شيئا إلى جانب ما وقع من مجازر الحرب الكبرى؟! ثم هل هو يوازي شيئا مما حدث أثناء الثورة الفرنسية الكبرى، وأثناء الثورات المختلفة التي وقعت وتقع في أمم أوربا المختلفة؟!

الثورة على الوثنية

وليس ريب في أن الأمر بين محمد وأصحابه كان ثورة قوية من محمد بعثه الله ليقوم بها في وجه الوثنية والمشركين من عبّادها. ثورة قامت أول أمرها بمكة، واحتمل محمد وأصحابه من أجلها ألوان العذاب ثلاثة عشر عاما سويّا. ثم انتقل المسلمون إلى المدينة وحشدوا جموعهم وقواتهم بها، وما تزال مبادئ الثورة قائمة على أشدّها في نفوسهم وفي نفوس قريش جميعا. وانتقال المسلمين إلى المدينة، وموادعتهم اليهود من أهلها؛ وما قاموا به من مناوشات سبقت بدرة؛ وغزوة بدر هذه- ذلك كله كان سياسة الثورة ولم يكن مبادئها. كان السياسة التي قرر القائم بهذه الثورة وأصحابه أن يتّبعوا لإقرار أسمى المبادئ- التي جاء الرسول بها. وسياسة الثورة شيء ومبادئها شيء آخر. والخطّة التي تتّبع قد تختلف تمام الاختلاف عن الغاية المقصودة من هذه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015