يقول زيد ما يقول هذيانا من الفزع والرعب. لكن المسلمين ما لبثوا حين تثبتوا من الرسولين واطمأنوا إلى صحة الخبر أن زاد بهم السرور لولا حادث طرأ خفف من سرورهم. ذلك الحادث هو موت رقية بنت النبي، وكان قد تركها عند ذهابه إلى بدر مريضة، وترك معها زوجها عثمان بن عفان يمّرضها. ولما أيقن المشركون والمنافقون بنصر محمد أسقط في أيديهم، ورأوا موقفهم من المسلمين قد أصبح موقف هوان ومذلة، حتى قال أحد زعماء اليهود: بطن الأرض اليوم خير من ظهرها بعد أن أصيب أشراف الناس وسادتهم وملوك العرب وأهل الحرم والأمن.
ودخل المسلمون المدينة قبل أن يدخلها الأسارى بيوم، فلما جيء بهم ورجعت سودة بنت زمعة زوج النبيّ من مناحة ابني عفراء وكانت بها، رأت أبا يزيد سهيل بن عمرو أحد الأسرى مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلم تملك نفسها أن توجّه إليه الكلام قائلة: أي أبا يزيد! أسلمتم أنفسكم وأعطيتم بأيديكم، ألا متم كراما! فناداها محمد من البيت: يا سودة! أعلى الله عزّ وجل وعلى رسوله تحرّضين! فأجابت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت.
وفرّق محمد الأسارى بين أصحابه وقال لهم: استوصوا بهم خيرا. وطفق من بعد ذلك يفكر فيما يصنع بهم:
أفيقتلهم أم يأخذ منهم الفداء؟ إن منهم لأشدّاء في الحرب أقوياء في النضال، ومن امتلأت بالحقد والضغينة نفوسهم بعد الذي كان من هزيمتهم ببدر وما لحقهم من عار الأسر؛ فإن هو قبل الفداء كانوا عليه حربا وألبا، وإن هو قتلهم أثار في نفوس أهليهم من قريش ما ربما هدأ لو أنهم افتدوهم.
وعرض الأمر على المسلمين يستشيرهم ويترك لهم الخيار. وكان المسلمون قد آنسوا من الأسرى طمعا في الحياة واستعدادا لفدية عظيمة. فقال هؤلاء: لو بعثنا إلى أبي بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا وأكثرهم رحمة وعطفا، ولا نعلم أحدا آثر عند محمد منه. وبعثوا إلى أبي بكر فقالوا له: أبا بكر، إن فينا الآباء والإخوان والعمومة وبني العم وأبعدنا قريب. كلّم صاحبك يمنّ علينا أو يفادنا. فوعدهم خيرا، وخافوا أن يفسد ابن الخطاب عليهم أمرهم، فأرسلوا إليه فجاءهم فقالوا له مثل قولهم لأبي بكر، فنظر اليهم شزرا. وذهب وزيرا محمد إليه فجعل أبو بكر يلينه ويفثؤه (?) ويقول يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! قومك فيهم الآباء والأبناء والعمومة وبنو العم والإخوان وأبعدهم منك قريب. فامنن عليهم منّ الله عليك، أو فادهم يستنقذهم الله بك من النار، فتأخذ منهم ما أخذت قوة للمسلمين، فلعلّ الله أن يقبل بقلوبهم. وسكت محمد فلم يجبه، فقام فتنحّى. وجاء عمر فجلس مجلسه وقال: يا رسول الله، هم أعداء الله، كذّبوك، وقاتلوك وأخرجوك، اضرب رقابهم؛ هم رؤس الكفر وأئمّة الضلالة يوطئ الله بهم الإسلام ويذلّ بهم أهل الشرك. ولم يجب محمد. فعاد أبو بكر إلى مقعده الأوّل وجعل يتلطف ويستعطف، ويذكر القرابة والرّحم، ويرجو لهؤلاء الأسرى الهدى إن هم أبقى على حياتهم؛ وعاد عمر مثال العدل الصارم لا تأخذه فيه هوادة ولا رحمة. ولما فرغ أبو بكر وعمر من كلامهما، قام محمد فدخل قبّته فمكث فيها ساعة ثم خرج والناس يخوضون في شأنهم، يقف بعضهم في صفّ أبي بكر، ويقف آخرون في صف عمر. فشاورهم فيما يصنع، وضرب لهم في أبي بكر وفي عمر مثلا. فأمّا أبو بكر في الملائكة كمثل ميكال ينزل برضا الله وعفوه عن عباده، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم، كان ألين على قومه من العسل. قدّمه قومه إلى النار وطرحوه فيها فما زاد على أن قال: (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما