ما تطمح إلى بلوغه، وإن هي زادت بفعل هذا الإيمان الذي ازداد قوّة بتحريض محمد أصحابه فعوّضهم بذلك عن قلّة عددهم وعدّتهم. وفي حال النبي وأصحابه هذه نزلت الآيتان: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (?) .
ازداد المسلمون قوة بتحريض محمد إيّاهام ووقوفه بينهم ودفعهم لمقاتلة العدوّ والصيحة بهم أن الجنّة لمن أحسن البلاء منهم ومن غمس يده في العدوّ حاسرا. ووجّه المسلمون أكبر همهم إلى سادات قريش وزعمائها يريدون استئصالهم جزاء وفاقا لما عذّبوهم بمكة، ولما صدّوهم عن المسجد الحرام وعن سبيل الله. رأى بلال أميّة بن خلف وابنه، ورأى بعض المسلمين الذين عرفوه بمكة حوله. وكان أميّة هو الذي عذّب بلالا إذ كان يخرجه إلى رمضاء مكة فيضجعه على ظهره ويأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ليفتنه عن الإسلام، فيقول بلال: أحد أحد- رأى بلال أمية فصاح به: أميّة رأس الكفر لا نجوت إن نجا! وحاول بعض المسلمين من حول أميّة أن يحولوا دون قتله وأن يأخذوه أسيرا. فصرخ بلال بأعلى صوته في الناس: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوت إن نجا. واجتمع الناس ولم ينصرف بلال حتى قتل أمية. وقتل معاذ بن عمرو بن الجموح أبا جهل بن هشام. وخاض حمزة وعليّ وأبطال المسلمين وطيس المعركة وقد نسي كل منهم نفسه ونسي قلة أصحابه وكثرة عدوّه، فثار النقع وامتلأ الجو بالغبار، وجعلت هام قريش تطير عن أجسادها والمسلمون يزدادون بإيمانهم قوّة ويصيحون مهللين: أحد أحد، وقد كشفت أمامهم حجب الزمان والمكان وأمدّهم الله بالملائكة يبشّرونهم ويزيدونهم تثبيتا وإيمانا، حتى لكأن الواحد منهم إذ يرفع سيفه ويهوي على عنق عدوّه إنما تحرك قوة الله يده. ووقف محمد وسط هذا الوطيس يتمشّى خلاله ملك الموت يقطّ رق الكفر، فأخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وقال: شاهت الوجوه! ثم نفحهم بها وأمر أصحابه فقال شدّوا. وشدّ المسلمون وما يزالون أقل من قريش عددا، لكن كل واحد منهم امتلأت بنفحة من أمر نفسه، فلم يكن هو الذي يقتل العدوّ، ولا كان هو الذي يأسر من يأسر، لولا هذه النفخة التي ضاعفت المعنويّة بما ضعفت قوّته المادية. وفي ذلك نزل قوله تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (?) ، وقوله تعالى:
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى) (?) .
لما آنس الرسول أن الله أنجزه وعده وأتمّ على المسلمين النصر عاد إلى العريش. وفرّت قريش فطاردهم المسلمون يأسرون منهم من لم يقتل ولم يساعفه حسن فراره بالنجاة.
هذه غزوة بدر التي استقرّ بها الأمر للمسلمين من بعد في بلاد العرب جميعا، والتي كانت مقدمة وحد شبه الجزيرة في ظلال الإسلام، ومقدمة الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، والتي أقرت في معالم حضارة لا تزال ولن تزال ذات أثر عميق في حياته. ولقد تعجب إذ تعلم أن محمدا، على ما كان من تحريضه