يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. وخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث. ولم يمهل حمزة شيبة ولا أمهل عليّ الوليد أن قتلاهما، ثم أعانا عبيدة وقد ثبت له عتبة. فلما رأت قريش من ذلك ما رأت، تزاحف الناس، والتقى الجمعان صبيحة الجمعة لسبع عشر خلت من شهر رمضان.

دعاء محمد وابتهاله

وقام محمد على رأس المسلمين يعدل صفوفهم. فلما رأى كثرة قريش وقلّة رجاله وضعف عدتهم إلى جانب عدة المشركين عاد إلى العريش ومعه أبو بكر، وهو أشد ما يكون خوفا من مصير ذلك اليوم، وأشد ما يكون إشفاقا مما يصير إليه أمر الإسلام إذا لم يتم للمسلمين النصر. واستقبل محمد القبلة واتجه بكل نفسه إلى ربه، وجعل ينشده ما وعده ويهتف به أن يتم له النصر. وبالغ في التوبة والدعاء والابتهال وجعل يقول:

«اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد» . وما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه؛ وجعل أبو بكر من ورائه يرد على منكبيه رداءه ويهيب به: يا نبيّ الله، بعض مناشدتك ربّك؛ فإن الله منجز لك ما وعدك.

ولكن محمدا ظلّ فيما هو فيه أشدّ ما يكون توجها وأشد ما يكون تضرّعا وخشية واستعانة بربه على هذا الموقف الذي لم يتوقعه المسلمون ولم يتخذوا له عدته، حتى خفق خفقة من نعاس رأى خلالها نصر الله، وانتبه بعدها مستبشرا، وخرج إلى الناس يحرضهم ويقول لهم: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» .

وسرت من نفسه القوية، أمدها الله من لدنه بما سما بها فوق كل قوّة، إلى نفوس هؤلاء المؤمنين برسالته قوّة ضاعفت عزمهم، وجعلت كلّ رجل منهم يعدل رجلين بل يعدل عشرة رجال. ويسير عليك أن تقدر هذا إذا ذكرت ما لازدياد القوّة المعنوية من أثر في النفس متى توافرت أسباب ازدياد هذه القوّة المعنويّة فيها. فدافع الوطنية يزيدها. وهذا الجندي الذي يقف مدافعا عن وطنه المهدد بالخطر ممتلئ النفس بالعاطفة الوطنية، تتضاعف قوّته المعنوية بمقدار حبه لوطنه وإيمانه به، وبمقدار تخوّفه من الخطر الذي يتهدد العدوّ الوطن به.

ولهذا تغرس الأمم في نفوس أبنائها منذ نعومة أظفارهم حبّ الوطن والاستهانة بالتضحية في سبيله: والإيمان بالحق وبالعدل وبالحرية وبالمعاني الإنسانية السامية يزيد القوّة المعنوية في النفس بما يضاعف القوّة المادية فيها.

والذين يذكرون ما قام به الحلفاء في الحرب الكبرى من دعوة واسعة النطاق ضد الألمان، أساسها أنهم يدافعون عن قضية الحرية والحق ويحاربون في ألمانيا الجندية المسلحة ويمهدون لعهد سلام ونور، يدركون ما كانت تضاعف هذه الدعوة من قوّة في نفوس جنود الحلفاء بمقدار ما كانت تحيطهم به من عطف في أكثر أمم العالم.

وما الوطنية وما قضية السلام إلى جانب ما كان محمد يدعو إليه! إلى إتصال الإنسان بالوجود كله اتصالا يندمج به فيه ويصبح قوّة من قوى الكون الموجه له إلى سبيل الخير والنعمة والكمال! نعم ما الوطنية وما قضيّة السلام إلى جانب الوقوف في جانب الله ودفع الذين يفتنون المؤمنين عنه، والذين يصدّون عن سبيله. والذين ينزلون بالإنسان إلى درك الوثنية والإشراك. إذا كانت النفس يزيدها حب الوطن قوّة بمقدار ما في الوطن كله من قوّة، ويزيدها حب السلام للإنسانية كلها قوّة بمقدار ما في الإنسانية من قوّة، فما أكثر ما يزيدها الإيمان بالوجود كله وبخالق الوجود كله من قوّة!! إنه ليجعلها قديرة أن تسيّر الجبال، وتحرّك العوالم، وتهيمن بسلطانها المعنوي على كل من كان أقلّ منها في هذا الأمر إيمانا. وهذا السلطان المعنوي يزيد قوتها أضعافا مضاعفة، فإذا لم يصل هذا السلطان المعنوي إلى غاية كماله بسبب ما كان بين المسلمين من خلاف قبل الموقعة، لم تبلغ القوّة المادية كل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015