يلبث محمد حين رأى صواب ما أشار به الحباب أن قام ومن معه واتّبع رأي صاحبه، معلنا إلى قومه أنه بشر مثلهم وأن الرأي شورى بينهم وأنه لا يقطع برأي دونهم، وأنه في حاجة إلى حسن مشورة صاحب المشورة الحسنة منهم.
ولما بنوا الحوض أشار سعد بن معاذ قائلا: «نبي الله، تبني لك عريشا تكون فيه وتعدّ عندك ركائبك ثم نلقى عدوّنا؛ فإن أعزّنا الله وأظهرنا على عدوّنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الآخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا؛ فقد تخلّف عنك أقوام يا نبيّ الله ما نحن بأشد لك حبّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك» . وأثنى محمد على سعد ودعا له بخير، وبني العريش للنبي، حتى إذا لم يكن النصر في جانبه وجانب أصحابه لم يقع في يد عدوّه واستطاع اللّحاق بأصحابه في يثرب.
هنا موضع لوقفة إعجاب بصدق وفاء المسلمين وعظيم محبّتهم لمحمد وإيمانهم برسالته. فهاءهم أولاء يعلمون أن قريشا تفوقهم في العدد وأنها ثلاثة أمثالهم، ومع ذلك اعتزموا الوقوف في وجهها وقتالها. وهاهم أولاء يرون الغنيمة فاتتهم فلم يصبح الكسب المادي هو الذي يحفزهم للقتال، ومع ذلك قاموا إلى جانب النبيّ يؤيدونه ويعزّزونه. وهاهم أولاء تتردّد نفوسهم بين الطمع في النصر وخوف الهزيمة. ومع ذلك فكروا في حماية النبيّ وتوقيته أن يظفر به عدوّه، ومهدوا له سبيل الاتصال بمن ترك بالمدينة. فأيّ موقف أدعى للإعجاب من هذا الموقف؟ وأيّ إيمان يكفل النصر كهذا الإيمان!
ونزلت قريش منازل القتال، ثم بعثوا من يقصّ لهم خبر المسلمين فجاءهم بأنهم ثلثمائة أو يزيدون قليلا أو ينقصون، ولا كمين لهم ولا مورد؛ ولكنهم قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، فلا يموت منهم رجل قبل أن يقتل رجلا مثله. ولمّا كانت صفوة قريش قد خرجوا في هذا الجيش، خشي بعض ذوي الحكمة منهم أن يقتل المسلمون كثرتهم فلا تبقى لمكة مكانة. لكنهم خافوا حدّة أبي جهل ورمية إياهم بالجبن والخوف، وإن لم يمنع ذلك عتبة بن ربيعة من أن يقف بينهم قائلا: «يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته. فارجعوا وخلوا بن محمد وسائر العرب؛ فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك لم نتعرّض منه لما تكرهون» . فلمّا بلغت أبا جهل مقالة عتبة استشاط غيظا وبعث إلى عامر بن الحضرميّ يقول له: «هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد مقتل أخيك» . وقام عامر فصرخ: واعمراه! فلم يبق بعد ذلك من الحرب مفرّ. وأعجل القتال أن اندفع الأسود بن عبد الأسد المخزوميّ من بين صفوف قريش إلى صفوف المسلمين يريد أن يهدم الحوض الذي بنوا؛ فعاجله حمزة بن عبد المطّلب بضربة أطاحت بساقه فسقط إني ظهره تشخب رجله دما، ثم أتبعها حمزة بضربة أخرى قضت عليه دون الحوض. ولا شيء أرهف لظبا السيوف من منظر الدم: ولا شيء أشدّ إثارة لعواطف القتال والحرب في الإنسان من مرأى رجل مات بيد العدوّ وقومه وقوف ينظرون.
وما إن سقط الأسود حتى خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة.
وخرج إليه فتية من أبناء المدينة. فلما عرفهم قال لهم: ما لنا بكم من حاجة إنما نريد قومنا. ونادى مناديهم: