تلّ قريب من الماء وأخذا وعاء لهما يستقيان فيه. وإنهما لعلى الماء إذ سمعا جارية تطالب صاحبتها بدين عليها والثانية تحبيبها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيه لك. وعاد الرجلان فأخبرا محمدا بما سمعا. فأما أبو سفيان فسبق الغير يتنطّس الأخبار حذر أن يكون محمد قد سبقه إلى الطريق. فلما ورد الماء وجد عليه مجديّ بن عمرو، فسأله: هل قد رأى أحدا؟ وأجاب مجديّ بأنه لم ير إلا راكبين أناخا إلى هذا التلّ، وأشار إلى حيث أناخ الرجلان من المسلمين. فأتى أبو سفيان مناخهما فوجد في روث بعيريهما نوى عرفه من علائف يثرب، فأسرع عائدا إلى أصحابه وعدل بالسير عن الطريق مساحلا البحر مسرعا في مسيره، حتى بعد ما بينه وبين محمد، ونجا.
وأصبح الغد والمسلمون في انتظار مروره بهم، فإذا الأخبار تصلهم أنه فاتهم وأن مقاتلة قريش هم الذين ما يزالون على مقربة منهم؛ فيذوي في نفوس جماعة منهم ما كان يملؤها من أمل الغنيمة، ويجادل بعضهم النبيّ كي يعودوا إلى المدينة ولا يلقوا القوم الذين جاؤا من مكة لقتالهم. وفي ذلك نزل قوله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (?) .
وقريش هم أيضا، ما حاجتهم إلى القتال وقد نجت تجارتهم؟ أليس خيرا لهم أن يعودوا من حيث أتوا، وأن يتركوا المسلمين يرجعون من رحلتهم بخفّى حنين؟ كذلك فكر أبو سفيان وبذلك أرسل إلى قريش يقول لهم: إنكم قد خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجّاها الله فارجعوا، ورأى من قريش رأيه عدد غير قليل. لكن أبا جهل ما لبث حين سمع هذا الكلام أن صاح: والله لا نرجع حتى نرد بدر فنقيم عليه ثلاثا ننحر الجزر، ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها. ذلك أن بدرا كانت موسما من مواسم العرب، فانصراف قريش عنها بعد أن نجت تجارتهم قد تفسره العرب، فيما رأى أبو جهل، بخوفهم من محمد وأصحابه، مما يزيد محمدا شوكة ويزيد دعوته انتشارا وقوة وخاصة بعد الذي كان من سريّة عبد الله بن جحش وقتل ابن الحضرميّ وأخذ الأسرى والغنائم من قريش.
وتردّد القوم بين اتباع أبي جهل مخافة أن يتّهموا بالجبن، وبين الرجوع بعد أن نجت عيرهم، فلم يرجع إلا بنو زهرة الذين اتبعوا مشورة الأخنس بن شريف، وكان فيهم مطاعا. واتبعت سائر قريش أبا جهل حتى ينزلوا منزلا يتهيئون فيه للحرب ثم يتشاورون بعد ذلك. ونزلوا بالعدوة القصوى خلف كثيب من الرمل يحتمون به. أمّا المسلمون الذين فاتتهم الغنيمة فقد أجمعوا أن يثبتوا للعدو إذا أجمع على محاربتهم، لذلك بادروا إلى ماء بدر، ويسّر لهم مطر أرسلته السماء مسيرتهم إليها. فلما جاؤا أدنى ماء منها نزل محمد به. وكان الحباب بن المنذر بن الجموح عليما بالمكان؛ فلما رأى حيث نزل النبيّ قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال محمد: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فتنزل ثم نغوّر ما وراءه من القلب (?) ، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. ولم