بعيرا وكانت عدّة من خرج مع محمد إلى هذه الغزوة خمسة وثلثمائة رجل، منهم ثلاثة وثمانون من المهاجرين وواحد وستون من الأوس والباقون من الخزرج. وانطلق القوم مسرعين من خوف أن يفلت أبو سفيان منهم، وهم يحاولون حيثما مرّوا أن يقفوا على أخباره. فلما كانوا بعرق الظبية لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن القوم فلم يجدوا عنده خبرا. وانطلقوا حتى أتوا واديا يقال له ذفران نزلوا فيه، وهناك جاءهم الخبر بأن قريشا قد خرجوا من مكة ليمنعوا عيرهم. إذ ذاك تغيّر وجه الأمر. لم يبق هؤلاء المسلمون مهاجروهم والأنصار أمام أبي سفيان وعيره والثلاثين أو الأربعين رجلا معه، لا يملكون مقاومة محمد وأصحابه؛ بل هذه مكة خرجت كلها وعلى رأسها أشرافها للدفاع عن تجارتها. فهب المسلمين أدركوا أبا سفيان وتغلبوا على رجاله وأسروا منهم من أسروا واقتادوا إبله وما عليها، فلن تلبث قريش أن تدركهم، يحفزها حرص على مالها والدفاع عنه وتؤازرها كثرة عديدها وعددها، وأن توقع بهم وأن تستردّ الغنيمة منهم أو تموت دونها. ولكن إذا عاد محمد من حيث أتى طمعت قريش وطمعت يهود المدينة فيه، واضطر إلى موقف المصانعة، واضطر أصحابه إلى أن يحتملوا من أذى يهود المدينة مثل ما احتملوا من أذى قريش بمكة. وهيهات إن هو وقف هذا الموقف أن تعلو كلمة الحق وأن ينصر الله دينه.
استشار الناس وأخبرهم بما بلغه من أمر قريش؛ فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: «يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون» ، وسكت الناس.
فقال الرسول: أشيروا عليّ أيها الناس. وكان يريد بكلمته هذه الأنصار الذين بايعوه يوم العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم ولم يبايعوه على اعتداء خارج مدينتهم. فلما أحس الأنصار أنه يريدهم، وكان سعد بن معاذ صاحب رايتهم التفت إلى محمد وقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال سعد:
«لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا. على السمع والطاعة؛ فامض لما أردت فنحن معك. فو الذي بعثك لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا. إنا لصبر في الحرب صدق في اللّقاء- لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله» . ولم يكد سعد يتم كلامه حتى أشرق وجه محمد بالمسرة وبدا عليه كل النشاط وقال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. وارتحلوا جميعا، حتى إذا كانوا على مقربة من بدر انطلق محمد على بعيره حتى وقف على شيخ من العرب وسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه، ومنه عرف أن عير قريش منه قريب.
إذ ذاك عاد إلى قومه، فبعث عليّ بن أبي طالب والزّبير بن العوّام وسعد بن أبي وقّاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يتلمّسون له الخبر عليه. وعادت هذه الطليعة ومعها غلامان عرف محمد منهما أن قريشا وراء الكثيب بالعدوة القصوى. ولما أن أجابا أنهما لا يعرفان عدّة قريش، سألهما محمد كم ينحرون كل يوم؟
فأجابا: يوما تسعا ويوما عشرا. فاستنبط النبي من ذلك أنهم بين التسعمائة والألف. وعرف من الغلامين كذلك أن أشراف قريش جميعا خرجوا لمنعه؛ فقال لقومه: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» إذا فلابدّ له ولهم أمام قوم يزيدون عليهم في العدد ثلاثة أضعاف أن يشحذوا عزائمهم، وأن يوطّنوا على الشدة أفئدتهم ونفوسهم، وأن ينتظروا موقعة حامية الوطيس لا يكون النصر فيها إلا لمن ملأ الإيمان بالنصر قلبه.
وكما عاد عليّ ومن معه بالغلامين وبخبر قريش معهما ذهب اثنان من المسلمين حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى