أمّا أبو سفيان فكان قد اتصل به خروج محمد لإعتراض قافلته حين رحلتها إلى الشام، فخاف أن يعترضه المسلمون حين أوبته بعد أن ربحت تجارته، وجعل ينتظر أخبارهم. وكان الجهنيّ الذي نزل عليه رسولا محمد بالحوراء بعض من سأل. ومع أن الجهنيّ لم يصدقه الخبر فقد بلغه من أمر محمد والمهاجرين والأنصار معه مثل ما ترامى إلى محمد من خيره؛ فخاف عاقبة أمره أن لم يكن من قريش في حراسة العير إلا ثلاثون أو أربعون رجلا. عند ذلك استأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ فبعثه مسرعا إلى مكة ليستنفر قريشا إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه. ووصل ضمضم من مكة إلى بطن الوادي فقطع أذني بعيره وجدع أنفه وحوّل رحله ووقف هو عليه وقد شق قميصه من قبل ومن دبر وجعل يصيح. يا معشر قريش! اللطيمة (?) اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها.
الغوث الغوث! وما لبث أبو جهل حين سمعه أن صاح بالناس من عند الكعبة يستنفرهم. وكان أبو جهل رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النّظر. ولم تكن قريش في حاجة إلى من يستنفرها، وقد كان لكل منهم في هذه العير نصيب.
على أن طائفة من أهل مكة كانت تشعر بما ظلمت قريش المسلمين من أهلها حتى أكرهتهم على الهجرة إلى الحبشة ثم الهجرة إلى المدينة، فكانت تتردد بين النفير للذود عن أموالها والقعود رجاء ألا يصيب العير مكروه. وهؤلاء كانوا يذكرون أن قريشا وكنانة بينهما ثأر في دماء تبادل الفريقان إراقتها. فإذا هي خفت إلى لقاء محمد لمنع عيرها منه خافت بني بكر (من كنانة) أن تهاجمها من خلفها. وكادت هذه الحجة ترجح وتؤيد رأي القائلين بالقعود لولا أن جاء مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. إذ ذاك رجحت كفة أبي جهل وعامر بن الحضرمي والدّعاة إلى الخروج لدفع محمد والذين معه، ولم يبق لكل قادر على القتال عذر في التخلف أو يرسل مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان لطّ (?) له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلس بها. وكان أمية بن خلف قد أجمع على القعود، وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا. فأتاه بالمسيجد عقبة بن أبي معيط وأبو جهل، ومع عقبة مجمرة فيها بخور ومع أبي جهل مكحلة ومرود فوضع عقبة المجمرة بين يديه وقال: يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء. وقال أبو جهل: اكتحل أبا علي فإنما أنت امرأة. فقال أمية: ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي، وخرج معهم؛ فلم يبق بمكة متخلف قادر على القتال.
أما النبي عليه السلام فقد خرج في أصحابه من المدينة، لثمان خلون من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وجعل عمرو بن أم مكتوم فيها على الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الرّوحاء واستعمله على المدينة. وكانت أمام المسلمين في مسيرتهم رايتان سوداوان، وكانت إبلهم سبعين بعيرا جعلوا يعتقبونها (?) ، كل اثنين منهم وكل ثلاثة وكل أربعة يعتقبون بعيرا، وكان حظ محمد في هذا كحظ سائر أصحابه، فكان هو وعليّ بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا. وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون