وجعل محمد يمكّن للحضارة التي وضع حجر الأساس فيها بتعاليمه ومثله؛ وجعل يفكر هو وأصحابه من المهاجرين فيما لم يفتهم التفكير لحظة فيه منذ هجرتهم من مكة: فيما يجب أن يكون موقفهم من قريش وأمرهم معهم. ولقد كان يدفعهم إلى هذا التفكير دوافع عدة؛ ففي مكة كانت الكعبة ببيت إبراهيم ومكان حجهم وحج العرب جميعا. أفتراهم ينقطعون عن هذا الواجب المقدس الذي كانوا يقومون به إلى يوم أخرجوا من مكة! وفيها ما يزال لهم أهل تهوي إليهم نفوسهم وتشفق من بقائهم على الشرك أفئدتهم وقلوبهم.
وفيها بقيت أموالهم ومتاعهم وتجارتهم مما منعتهم قريش منه حين هجرتهم. ثم إنهم إذ حضروا المدينة كانت موبوءة بالحمّى فأصابهم منها عنت شديد، وبلغت منهم حتى جهدوا مرضا وكانوا يصلون قعودا، فزاد ذلك في تحنانهم إلى مكة. وهم قد أخرجوا من مكة كارهين، فكأنهم خرجوا مغلوبين على أمرهم. وليس في طبع هؤلاء القرشيين أن يصبروا على الضيم أو أن يذعنوا للغلب دون تفكير في الثأر لأنفسهم منه. وإلى جانب هذه الدوافع جميعا كان يحركهم الدافع الطبيعي دافع الحنين إلى الوطن، إلى هذا المكان الذي منه نبتنا وفيه نشأنا ولأرضه وسهله وجبله ومائه كان أول حديثنا وأوّل صداقتنا وأوّل ودّنا. هذه البقعة من الأرض نمّتنا صغارا فإليها مثوانا كبارا، بها تتعلق قلوبنا وعواطفنا، وعنها نذود بقوتنا وبمالنا، ونضحي بمجهودنا وبحياتنا، وفيها نود أن ندفع بعد موتنا لنعود إلى ترابها الذي خرجنا منه. هذا الدافع الطبيعي أذكى في أنفس المهاجرين سائر الدوافع، وجعلهم لا ينفكون يفكرون في قريش وفيما يجب أن يكون موقفهم منها. لن يكون هذا الموقف موقف استسلام أو استخذاء وقد صبروا فيها على الأذى ثلاثة عشر عاما سويّا. والدين الذي احتملوا فيه هذا الأذى والذي هاجروا في سبيله لا يقرّ الضعف ولا اليأس ولا الاستكانة. وإذا كان يمقت الاعتداء وينكره، ويقرّر الإخاء ويدعو إليه، فإنه يفرض الدفاع عن النفس وعن الكرامة وعن حريّة العقيدة وعن الوطن. ولهذا الدفاع أتم محمد مع أهل يثرب بيعة العقبة الكبرى. فكيف يؤدي المهاجرون هذا الفرض عليهم لله ولبيته الحرام ولوطنهم مكة المحبّب إلى قلوبهم؟! هذا ما ستّتجه إليه سياسة محمد والمسلمين معه، حتى يتم له فتح مكة، وحتى يعلو دين الله وتعلو كلمة الحق فيها.