الروحية تنتظم العالم من أزله إلى أبده. كان اليهود والنصارى يسألونه عمن يؤمن بهم من الرسل فيقول: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (?) .
وكان ينكر عليهم أشدّ الإنكار كل ما يلقي أية شبهة على وحدة الله، ويذكر لهم أنهم حرّفوا الكلم مما في كتبهم عن مواضعه وأنهم يذهبون إلى غير ما ذهب إليه النبيون والرسل الذين يقرّون لهم بالنبوة، وأن ما جاء به عيسى وموسى ومن سبقهم لا يختلف في شيء عما جاء هو به؛ لأن ما جاؤا به إنما هو الحقيقة الأزليّة الخالدة التي تتكشّف في جلال وضوحها وعظمة بساطتها لكل من نزّه نفسه عن الخضوع لغير الله في عظمة وحدته، ونظر في الكون على أنه وحدة متصلة نظرة سامية فوق أهواء الساعة ومطامع العاجلة وشهوات المادة، مجرّدة من الخضوع الأعمى لأوهام العامة ولما وجد عليه آباءه وأجداده.
أي مؤتمر أعظم من هذا المؤتمر الذي شهدت يثرب، تلتقي فيه الأديان الثلاثة التي تتجاذب حتى اليوم مصاير العالم، وتلتقي فيه لأسمى فكرة وأجل غاية! لم يكن مؤتمرا اقتصاديّا، ولا كان مرماه أي غرض من هذه الأغراض المادية التي ينطح عالمنا اليوم عبثا صخرتها؛ إنما كان مرماه غاية روحية تقف من ورائها في أمر النصرانية واليهودية مطامع السياسة ومارب أرباب المال وذوي الملك والسلطان، ويقف فيه محمد لغاية روحية إنسانية بحتة يملي عليه الله في سبيلها الصيغة التي يلقى بها إلى اليهود والنصارى وإلى الناس كافة، يقول لهم فيها: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (?) .
ماذا يستطيع اليهود أو يستطيع النصارى أو يستطيع غيرهم أن يقولوا في هذه الدعوة: ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله! فأما الروح المخلصة الصادقة، فأما النفس الإنسانية التي كرّمت بالعقل والعاطفة فلا تستطيع إلا أن تؤمن بهذا دون غيره. لكن في الحياة الإنسانية إلى الجانب النفساني جانبها المادي. فيها هذا الضعف الذي يجعلنا نقبل لغيرنا علينا سلطانا بثمن يشتري به أنفسنا وأرواحنا وقلوبنا. فيها هذا الغرور القتّال للكرامة وللعاطفة ولنور النفس العاقلة. هذا الجانب المادي المصور في المال وفي الجاه وفي كاذب الألقاب والرتب، وهو الذي جعل أبا حارثة أكثر نصارى نجران علما ومعرفة يدلي إلى رفيق له باقتناعه بما يقول محمد، فلما سأله رفيقه: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا كان جوابه: يمنعني ما صنع بنا هؤلاء القوم؛ شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى.
دعا محمد اليهود والنصارى إلى هذه الدعوة أو بلاعن النصارى؛ فأما اليهود فكان بينه وبينهم عهد الموادعة. إذ ذاك تشاور النصارى ثم أعلنوا إليه أنهم رأوا ألّا يلاعنوه وأن يتركوه على دينه ويرجعوا على دينهم.
ولكنهم رأوا حرص محمد على العدل حرصا احتذى أصحابه فيه مثاله، فطلبوا إليه أن يبعث معهم رجلا يحكم بينهم في أشياء اختلفوا عليها من أقوالهم. وبعث محمد معهم أبا عبيدة بن الجراح ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه.