وأنكر ما قاله لأبي بكر في الله: فنزل قوله تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (?) .
لم يكتف اليهود بالوقيعة بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج من هؤلاء، ولم يكفهم فتنة المسلمين عن دينهم ومحاولة ردهم إلى الشرك دون محاولة تهويدهم، بل زادوا على ذلك أن حاولوا فتنة محمد نفسه؛ ذلك أن أحبارهم وأشرافهم وسادتهم ذهبوا إليه وقالوا: «إنك قد عرفت أمرنا ومنزلتنا، وإنا إن اتبعناك اتبعك اليهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين بعض قومنا خصومة، فنحتكم إليك فتقضي لنا فنتبعك ونؤمن بك» . فنزل فيهم قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (?) .
ضاق اليهود ذرعا بمحمد، ففكروا في أن يمكروا به، وأن يقنعوه بالجلاء عن المدينة كما أجلاه أذى قريش إياه وأصحابه عن مكة؛ فذكروا له أن من سبقه من الرسل ذهبوا جميعا إلى بيت المقدس وكان به مقامهم، وأنه إن يكن رسولا حقّا فجدير به أن يصنع صنيعهم، وأن يعتبر المدينة وسطا في هجرته بين مكة ومدينة المسجد الأقصى. لكن محمدا لم يحتج إلى طويل تفكير فيما عرضوا عليه ليعلم أنهم يمكرون به. وأوحى إليه الله يومئذ، على رأس سبعة عشر شهرا من مقامه بالمدينة، أن يجعل قبلته إلى المسجد الحرام بيت إبراهيم وإسماعيل، فنزلت الآية: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (?) .
وأنكر اليهود عليه ما فعل، وحاولوا فتنته مرة أخرى بقولهم إنهم يتبعونه إذا هو رجع إلى قبلته؛ فنزل قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ)
(?) .
في هذا الوقت الذي اشتد فيه الجدال بين محمد واليهود وفد على المدينة وفد من نصارى نجران عدتهم ستون راكبا؛ من بينهم من شرف فيهم ودرس كتبهم وحسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرّفوه وموّلوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات. ولعل هذا الوفد إنما جاء إلى مدينة النبيّ حين علم بما بينه وبين اليهود من خلاف، طمعا في أن يزيد هذا الخلاف شدّة حتى يبلغ به العداوة، فيريح النصرانية المتاخمة في الشام وفي اليمن من دسائس اليهود وعدوان العرب. واجتمعت الأديان الثلاثة الكتابيّة بمجيء هذا الوفد وبجداله النبيّ وبقيام ملحمة كلاميّة عنيفة بين اليهودية والمسيحية والإسلام.
فأمّا اليهود فكانوا ينكرون رسالة عيسى ومحمد إنكارا فيه من العنت ما رأيت، ويزعمون أن عزيرا ابن الله.
وأمّا النصارى فكانوا يقولون بالتثليث وألوهية عيسى. وأمّا محمد فكان يدعو إلى توحيد الله، وإلى الوحدة