أن يبدي من الشكوك والريب ويلقي على محمد من الأسئلة ما يحسبه يزعزع في أنفس المسلمين عقيدتهم به وبرسالة الحقّ التي يدعو اليها. وانضم إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج الذين أسلموا نفاقا أيضا ليسألوا وليوقعوا بين المسلمين. وبلغ من تعنتهم أن اليهود منهم كانوا ينكرون ما في التوراة، وأنهم جميعا، وكلهم يؤمنون بالله سواء منهم بنو إسرائيل والمشركون الذين يتخذون أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى، كانوا يسألون محمدا: إذا كان الله قد خلق الخلق فمن خلق الله؟! وكان محمد يجيبهم بقوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (?) .
وفطن المسلمون لأمر خصومهم وعرفوا غاية سعيهم. ورأوهم يوما في المسجد يتحدثون بينهم خافضين أصواتهم قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم محمد فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا. ولم يثنهم ذلك عن كيدهم وسعيهم في الوقيعة بين المسلمين. مرّ أحدهم (شاس بن قيس) على نفر من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم؛ فغاظه صلاح ذات بينهم وقال في نفسه: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد؛ وما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. وأمر فتى شابّا من اليهود كان معهم أن ينتهز فرصة يذكر فيها يوم بعاث وما كان من انتصار الأوس فيه على الخزرج. وتكلم الغلام، فذكر القوم ذلك اليوم وتنازعوا وتفاخروا واختصموا، وقال بعضهم لبعض: إن شئتم عدنا إلى مثلها. وبلغ محمدا الأمر، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه، فذكرهم بما ألّف الإسلام بين قلوبهم وجعلهم إخوانا متحابين. وما زال بهم حتى بكى القوم وعانق بعضهم بعضا واستغفروا الله جميعا.
بلغ الجدال بين محمد واليهود مبلغا من الشدة يشهد به ما نزل من القرآن فيه. فقد نزل صدر سورة البقرة إلى الآية الحادية والثمانين منها، ونزل قسم عظيم من سورة النساء، وكله يذكر هؤلاء الكتابيين وإنكارهم ما في كتابهم ويلعنهم لكفرهم وإنكارهم أشد اللعنة: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (?) .
وبلغ الجدال بين اليهود والمسلمين حدّا كان يصل أحيانا، مع ما كان بينهم من عهد، إلى الاعتداء بالأيدي. وحسبك، لتقدر هذا، أن تعلم أن أبا بكر، على ما كان عليه من دماثة الخلق وطول الأناة ولين الطبع، تحدث إلى يهودي يدعى فنحاص، يدعوه إلى الإسلام؛ فرد فنحاص بقوله: «والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا. وإنا عنه أغنياء وما هو عنا بغنى. ولو كان غنيّا عنّا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الرّبا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيّا ما أعطانا» وفنحاص يشير هنا إلى قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) (?) .
لكن أبا بكر لم يطق على هذا الجواب صبرا، فغضب وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال:
والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك يا عدو الله! وشكا فنحاص أمره إلى النبي