وفي الأثر: «احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» . لكن محمدا أراد أن يضرب للناس المثل الأعلى في القوة على الحياة قوة لا يتطرق إليها ضعف؛ ولا يستعبد صاحبها متاع أو مال أو سلطان أو أيّ مما يجعل لغير الله عليه سيادة. والإخاء الذي يستند إلى هذه القوة ويكون له من المظهر ما ضرب محمد له المثل الأعلى فيما رأيت، إخاء محض بالغ غاية الإخلاص والسمو، إخاء لا تشوبه شائبة؛ لأن العدل يتضافر فيه مع الرحمة، ولأن صاحبه لا يرضى أن تحمله عليه إلا إرادته الحرة المطلقة. لكن الإسلام إذ يضع العدل إلى جانب الرحمة يضع العفو إلى جانب العدل، على أن يكون عفوا عن مقدرة؛ ليكون مظهر الرحمة صريحا صحيحا، وليكون القصد منه إلى الإصلاح صادقا.
هذا الأساس الذي وضعه محمد للحضارة الجديدة التي يقيمها يتلخص بصورة واضحة فيما روي عن عليّ بن أبي طالب أنه سأل رسول الله عن سنته فقال: «المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي؛ والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرّة عيني في الصلاة» .
تركت تعاليم محمد هذه وترك مثله وقدوته في النفوس أعمق الأثر؛ حتى لقد أقبل كثيرون على الإسلام، وازداد المسلمون في المدينة شوكة وقوة. هنالك بدأ اليهود يفكرون من جديد في موقفهم من محمد وأصحابه.
لقد عقدوا معه عهدا، وكانوا يطمعون في أن يضموه إلى صفوفهم وفي أخ يزدادوا به على النصارى منعة وقوة.
وهذا هو أقوى من هؤلاء وأولئك جميعا، وهذه كلمته تزداد ثباتا. بل هاهو ذا يفكر في أمر قريش وإخراجها إياه وإخراجها المهاجرين من مكة، وفتنتها من استطاعت فتنته من المسلمين عن دينه، أترى اليهود يتركون دعوته تنتشر وسلطانه الروحي يمتد؛ مكتفين بالأمن في جواره أمنا يزيد تجارتهم سعة وثروتهم ربحا؟ لعلهم كانوا يقنعون بهذا لو أنهم أمنوا ألا تمتد دعوته إلى اليهود وألا تفشوا في عامتهم، على حين تقتضيهم تعاليم ألا يعترفوا بنبي من غير بني إسرائيل. لكن حبرا عالما من كبار أحبارهم وعلمائهم، هو عبد الله بن سلام، لم يلبث حين اتصل بالنبي أن أسلم، وأمر أهل بيته فأسلموا معه. وخشي عبد الله أن يقول اليهود فيه إذا علموا بإسلامه، غير ما اعتادوه. فطلب إلى النبي أن يسألهم عنه: ما شأنه؟ قبل أن يعرف أحد منهم إسلامه.
قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا. فلما خرج عبد الله إليهم وتبينوا ما صنع ودعاهم هو إلى الإسلام، خافوا عاقبة أمره، فوقعوا فيه وأذاعوا عنه قالة السوء في أحياء اليهود كلها؛ وأجمعوا أمرهم على أن يكيدوا لمحمد وينكروا نبوته. وما كان أسرع أن اجتمع إليهم من بقي على الشرك من الأوس والخزرج ومن أسلم منهم نفاقا، جريا وراء مغنم أو إرضاء لذي عصبة وبأس.
وهنا بدأت حرب جدل بين محمد واليهود أشدّ لددا وأكبر مكرا من حرب الجدل التي كانت بينه وبين قريش بمكة. وفي هذه الحرب اليثربية تعاونت الدسيسة والنفاق والعلم بأخبار السابقين من الأنبياء والمرسلين.
أقامتها اليهود جميعا صفوفا متراصة يهاجمون بها محمدا ورسالته وأصحابه المهاجرين والأنصار. دسّوا من أحبارهم من أظهر إسلامه ومن استطاع أن يجلس بين المسلمين يظهر غاية التقوى، ثم ما لبث الحين بعد الحين