تردّده؛ فقال لها: عليك بالرفق. وكذلك شملت رحمته كل ما اتصل بها، وأظلت كل من كان في حاجة إلى تفيّؤ ظلالها.
وهي لم تكن رحمة ضعف ولا استكانة، ولم تشبها شائبة منّ ولا استعلاء إنما كانت إخاء في الله بين محمد والذين اتّصلوا به جميعا. ومن ثمّ يفترق أساس حضارة الإسلام عن كثير من سائر الحضارات. الإسلام يضع العدل إلى جانب الاخاء ويرى أن الإخاء لا يكون إخاء إلا به. (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (?) . (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (?) .
يجب أن يكون الدافع النفساني وحده والإرادة الحرة المطلقة وابتغاء وجه الله دون أي اعتبار آخر مصدر الإخاء وما يدعو إليه من بر ورحمة. ويجب أن يصدر ذلك عن نفس قوية لا تعرف لغير الله إسلاما ولا تضعف ولا تتهالك باسم الورع أو التقوى، ولا يتسرّب إليها خوف أو وهن إلا عن معصية ولا تكون قوية إذا خضعت لحكم أهوائها وشهواتها. وقد هاجر محمدا وأصحابه من مكة حتى لا يكونوا في حكم قريش ولا يوهن أذاها نفس أحد منهم. والنفس إنما تخضع لحكم الأهواء والشهوات إذا تحكم الجسد في الروح وغلبت الشهوة العقل، وأصبحنا نقيم للحياة الخارجة عنّا سلطانا على حياتنا نحن، على حين أنّا في غنى عنها وأنّا أصحاب السلطان عليها.
وكان محمد المثل الأعلى في القوّة على الحياة، قوّة جعلته لا يأبى أن يعطي غيره كل ما عنده؛ حتى قال أحدهم: إنّ محمدا يعطي عطاء من لا يخشى فاقة. ولكي لا يكون لشيء مما في الحياة سلطان عليه، وليكون له هو كل السلطان عليها، كان شديد الزهد في مادّتها، على شدة رغبته في الإحاطة بها وفي معرفة أسرارها، وتوقه إلى غاية الحقيقة من أمرها. بلغ من زهده فيها أن كان في فراشه الذي ينام عليه أدما حشوه ليف، وأنه لم يشبع قط، ولم يطعم خبز الشعير يومين متواليين، وكان السويق طعام أكلته الكبرى، وكان التمر طعام سائر يومه. وكان الثريد مما لا يكثر له ولأهله تناوله. ولقد عانى الجوع غير مرة، حتى كان يشدّ على بطنه حجرا يكظم به على صيحات معدته. ذلك كان المعروف عنه في طعامه، وإن لم يمنعه ذلك من أن ينال في بعض الأحايين من أطايب الرزق، وأن يعرف عنه حبّه زند الخروف والقرع والعسل والحلوى.
وكان زهده في اللباس كزهده في الطعام. أعطته امرأة يوما ثوبا كان في حاجة إليه، فطلب إليه أحدهم ما يصلح كفنا لميت فأعطاه الثوب. وكان معروف ثيابه القميص والكساء، وكانا من صوف أو قطن أو تيل. على أنه في بعض الأحيان لم يكن يأبى أن يلبس من أنسجة اليمن لباسا فخما يناسب المقام إذا اقتضاه المقام ذلك. وكان يحتذي حذاء بسيطا، ولم يلبس خفّا إلا حين أهدى إليه النجاشي خفّين وسراويل.
لم يكن هذا الزهد، ولا هذه الرغبة عن الدنيا تقشفا للتقشف، ولا كانا من فرائض الدين؛ فقد جاء في القرآن: (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) (?) وجاء: (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (?) .