وحجر الأساس هذا هو الإخاء الإنساني، إخاء يجعل المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يصل به هذا الإخاء إلى غاية البر والرحمة من غير ضعف ولا استكانة. سأل رجل محمدا: أي الإسلام خير؟ فقال: «تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» . وفي أول خطبة ألقاها بالمدينة قال: «من استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشقة من تمر فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها» . وفي خطبته الثانية قال: «اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتقوه حق تقاه، وأصدقوا الله صالح ما تقولون، وتحابوا بروح الله بينكم: إن الله يغضب أن ينتكث عهده» . بهذا وبمثله كان يحدّث أصحابه وكان يخطب الناس في مسجده، مستندا إلى جذع من جذوع النخل التي يعتمد عليها سقفه، حتى أمر فصنع له منبر من ثلاث درجات، كان يقوم على درجته الأولى خطيبا. وكان يجلس في درجته الثانية.
ولم تكن أقواله وحدها دعامة الدعوة إلى هذا الإخاء الذي جعل منه حجر الزاوية في حضارة الإسلام، بل كانت أعماله وكان مثله هو هذا الإخاء في أسمى صور كماله. كان رسول الله؛ لكنه كان يأبى أن يظهر في أيّ من مظاهر السلطان أو الملك أو الرياسة الزمنية. كان يقول لأصحابه: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد الله، فقولوا عبد الله ورسوله» . وخرج على جماعة من أصحابه متوكئا على عصا فقاموا له، فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا» . وكان إذا بلغ في مسيره أصحابه جلس منهم حيث انتهى به المجلس. وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ولا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد إلى صلاته وكان أطيب الناس نفسا وأكثرهم تبسّما ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب. وكان في بيته في مهنة أهله يطهر ثوبه ويرقعه ويحلب شاته، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل البعير، ويأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس والمسكين. وكان إذا رأى أحدا في حاجة آثره على نفسه وأهله ولو كان بهم خصاصة. وكان لذلك لا يدخر شيئا لغده، حتى لقد توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في قوت عياله.
وكان جم التواضع، شديد الوفاء؛ حتى لقد وفد للنجاشي وفد فقام بخدمتهم؛ فقال له أصحابه: يكفيك.
فقال: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافئهم. وبلغ من وفائه أنه ما ذكرت خديجة إلا ذكرها أطيب الذكر؛ حتى كانت عائشة تقول: ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة لما كنت أسمعه يذكرها.
ودخلت عليه امرأة فهش لها وأحسن السؤال عنها؛ فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وأن حسن العهد من الإيمان. وبلغ من طيبة نفسه ورقة قلبه أنه كان يدع بني بناته يداعبونه أثناء صلاته. بل لقد صلى بأمامة ابنة بنته زينب يحملها على عاتقه، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
ولم يقف بالبرّ والرحمة اللذين جعلهما دعامة الإخاء الذي قامت الحضارة الجديدة على أساسه عند الإنسان، بل عدّاهما إلى الحيوان كذلك؛ كان يقوم بنفسه فيفتح بابه لهرّة تلتمس عنده ملجأ، وكان يقوم بنفسه على تمريض ديك مريض، وكان يمسح لجواده بكمّ قميصه. وركبت عائشة بعيرا فيه صعوبة فجعلت