إلا على نفسه. وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
وأن من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن برّ واتقى» .
هذه هي الوثيقة السياسية التي وضعها محمد منذ ألف وثلثمائة وخمسين سنة، والتي تقرر حرية العقيدة وحرية الرأي وحرمة المدينة وحرمة الحياة وحرمة المال وتحريم الجريمة. وهي فتح جديد في الحياة السياسية والحياة المدنية في عالم يومئذ؛ هذا العالم الذي كانت تعبث به يد الاستبداد، وتعيث فيه يد الظلم فسادا. ولئن لم يشترك في توقيع هذه الوثيقة من اليهود بنو قريظة وبنو النّضير وبنو قينقاع، إنهم ما لبثوا بعد قليل أن وقعوا بينهم وبين النبي صحفا مثلها. وكذلك أصبحت المدينة وما وراءها حرما لأهلها؛ عليهم أن ينضحوا عنها ويدفعوا كل عادية عليها، وأن يتكافلوا فيما بينهم لاحترام ما قررت هذه الوثيقة فيها من الحقوق ومن صور الحرية.
طاب محمد نفسا بهذه النتيجة، وسكن المسلمون إلى دينهم، وجعلوا يقيمون فرائضه مجتمعين ويقيمونها فرادى، لا يخافون أذى ولا يخشون فتنة. إذ ذاك بنى محمد بعائشة بنت أبي بكر، وكانت في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرها، وكانت فتاة رقيقة حلوة القسمات محبّبة العشرة، وكانت تخطو دراكا من الطفولة إلى الصبا، وكانت ذات ولع باللعب والمرح، وكانت نامية نموّا حسنا. ووجدت في محمد أول انتقالها إليه بمسكنها إلى جانب مسكن سودة في جوار المسجد أبّا برّا عطوفا، وزوجا مشفقا رفيقا، لا يأبى عليها أن تعبث وتلهو بألاعيبها؛ وتسليه بذلك عن دائم تفكيره في العبء العظيم الذي ألقي عليه، وفي سياسة يثرب التي بدأ يوجهها إلى خير وجهة.
في هذه الفترة التي سكن فيها المسلمون إلى دينهم فرضت الزكاة وفرض الصيام وقامت الحدود، وتمكنت بيثرب شوكة الإسلام. وكان محمد حين قدم المدينة إنما يجتمع إليه الناس للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة؛ ففكر في أن يدعو للصلاة ببوق كالبوق الذي يدعو به اليهود لصلاتهم. لكنه كره البوق فأمر بالناقوس، فنحت ليضرب به للصلاة، كما تفعل النصارى. على أنه بعد مشورة عمر وطائفة من المسلمين على رواية، وبأمر الله على لسان الوحي في رواية أخرى، عدل عن الناقوس أيضا إلى الأذان، وقال عبد الله بن زيد بن ثعلبة:
«قم مع بلال فألقها عليه- أي صيغة الأذان- فليؤذّن بها فإنه أندى صوتا منك» . وكان لامرأة من بني النجار منزل إلى جانب المسجد أعلى منه، فكان بلال يرقاه فيؤذن عليه. وكذلك صار أهل يثرب جميعا يسمعون منذ الفجر في كل يوم دعوة إلى الإسلام مرتلة ترتيلا حسنا بصوت رطب جميل يوجهها بلال مع كل ريح إلى كل النواحي، ويلقي في أذن الحياة نداءه: «الله أكبر الله أكبر.، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله» . وكذلك انقلبت مخاوف المسلمين أمنا، وأصبحت يثرب مدينة الرسول، وأصبح غير المسلمين من أهلها يشعرون بقوة المسلمين قوة منبعثة من أعماق قلوب عرفت التضحية في سبيل الإيمان وذاقت الأذى بسببه ألوانا، وهاهي ذي اليوم تجني ثمرة الصبر، وتستمتع من حرية العقيدة بما قرر الإسلام من أن ليس لإنسان على إنسان سيادة، ومن أن الدين لله وحده، والعبودية له وحده، والناس أمام وجهه الأكرم سواسية، لا يجزون إلا بأعمالهم وبالنية التي تصدر هذه الأعمال عنها، وانفسح المجال أمام محمد ليعلن تعاليمه، وليكون بذاته وبتصرفاته المثل الأسمى لهذه التعاليم، وليصبح بذلك حجر الأساس للحضارة الإسلامية.