قال: فإن كلام نسائكم ورجالكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
فأسلم بنو عبد الأشهل جميعا رجالا ونساء.
وبلغ من انتشار الإسلام بيثرب ومن بأس المسلمين فيها من قبل هجرة النبي إليها ما لم يحلم به مسلمو مكة، وما طوّع لبعض الشبان من المسلمين أن يعبثوا بأصنام المشركين من أهلهم. كان لعمرو بن الجموح صنمّ من خشب يدعوه مناة، قد اتخذه في داره كما كان الأشراف يصنعون. وكان عمرو سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم. فلما أسلم فتيان قومه كانوا يريحون بالليل على صنمه فيحملونه فيكبونه على رأسه في إحدى الحفر التي يخرج أهل يثرب لقضاء حاجاتهم بها. فإذا أصبح عمرو فلم يجدن الصنم التمسه حتى يعثر به، ثم غسله وطهره وردّه مكانه وهو يبرق ويرعد ويتهدّد ويتوعد. وكرّر فتيان بني سلمة عبثهم بمناة ابن الجموح، وهو كل يوم يغسله ويطهره. فلما ضاق بهم ذرعا علّق على الصنم سيفه وقال له: إن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك. وأصبح فالتمسه فوجده في بئر مقرونا إلى كلب ميت وليس معه السيف، فلما كلمه رجال قومه أسلم بعد أن رأى بعينه ما في الشرك والوثنية من ضلال يهوي بنفس صاحبه إلى درك لا يجمل بإنسان.
يسير عليك أن تقدر، مع ما بلغ الإسلام من علوّ الشأن بيثرب، تحرّق أهلها شوقا إلى مقدم محمد عليهم بعد إذ علموا بهجرته من مكة. كانوا يخرجون كل يوم بعد صلاتهم الصبح إلى ظاهر المدينة يتلمّسونه حتى تغلبهم الشمس على الظلال في هذه الأيام الحارة من شهر يوليه. وبلغ هو قباء- على فرسخين من المدينة- فأقام أربعة أيام بها ومعه أبو بكر. وفي هذه الأيام الأربعة أسّس مسجدها. وبينما هم بها وصل إليها عليّ بن أبي طالب الذي ردّ الودائع التي كانت عند محمد لأصحابها من أهل مكة ثم غادرها يقطع الطريق إلى يثرب على قدميه، يسير الليل ويستخفي بالنهار، ويحتمل هذا الجهد المضني أسبوعين كاملين ليلحق بإخوانه في الدين.
وإن مسلمي يثرب لينتظرون يوما كعادتهم إذ صاح بهم يهوديّ كان قد رأى ما يصنعون. «يا بنى قيلة، هذا صاحبكم قد جاء» . وكان هذا اليوم يوم جمعة، فصلاها محمد بالمدينة. وهناك في المسجد الذي ببطن وادي رانونا أقبل عليه مسلمو يثرب وكلّ يحاول أن يراه وأن يقترب منه، وأن يملأ عينيه من هذا الرجل الذي لم يره من قبل، والذي امتلأت مع ذلك نفسه بحبه وبالإيمان برسالته، والذي يذكره كل يوم أثناء صلاته مرات. وعرض عليه رجال من سادة المدينة أن يقيم عندهم في العدد والعدّة والمنعة؛ فاعتذر لهم وامتطى ناقته وألقى لها خطامها، فانطلقت في طرق يثرب والمسلمون من حولها في حفل حافل يخلون لها طريقها، وسائر أهل يثرب من اليهود والمشركين ينظرون إلى هذه الحياة الجديدة التي دبت إلى مدينتهم، وإلى هذا القادم العظيم الذي اجتمع عليه من الأوس والخزرج من كانوا من قبل أعداء متقاتلين، ولا يجول بخاطر أحدهم في هذه البرهة التي اعتدل فيها ميزان التاريخ إلى وجهته الجديدة، ما أعد القدر لمدينتهم من جلال وعظمة يبقيان على الزمن وجعلت الناقة تسير حتى كانت عند مربد لغلامين يتيمين من بني النّجار، هنالك بركت، ونزل الرسول عنها، وسأل: لمن المربد؟ فأجابه معاذ بن عفراء؛ إنه لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان له وسيرضيهما، ورجا محمدا أن يتخذه مسجدا. وقبل محمد وأمر أن يا بنى في هذا المكان مسجده وأن تبنى داره.