استقبال يثرب للمهاجر العظيم- بناء المسجد ومنزل النبي- تفكير محمد في حرية العقيدة لأهل يثرب جميعا- يهود المدينة- مؤاخاة محمد بين المهاجرين والأنصار- معاهدته مع اليهود لتقرير حرية الاعتقاد- زواج محمد بعائشة الأذان للصلاة- مثل محمد وتعاليمه- قوة الدين الجديد وخوف اليهود منها- تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام- وفد نصارى نجران إلى المدينة- التقاء الأديان الثلاثة بيثرب- تفكير المسلمين في موقفهم من قريش.
خرج أهل يثرب لاستقبال محمد زرافات ووحدانا، رجالا ونساء، بعد الذي ترامى إليهم من أخبار هجرته ومن ائتمار قريش به، ومن احتماله أشدّ القيظ في هذه الرحلة المضنية بين كثبان تهامة وصخورها التي تردّ ضوء الشمس لظى وسعيرا. وخرجوا يثيرهم تطلعهم، لما انتشر من خبر دعوته في أنحاء شبه الجزيرة وما تقضي عليه هذه الدعوة من عقائد ورثها أهلها عن آبائهم، وكانت عندهم موضع التقديس. لكن خروجهم لم يكن راجعا إلى هذين السببين وكفى، بل كان راجعا أكثر من ذلك إلى أنه هاجر من مكة إلى يثرب ليقيم بها.
فكل طائفة وكل قبيلة من أهل يثرب كانت ترتب على هذا المقام، من الناحية السياسية والاجتماعية، آثارا شتى، هي التي استخفتهم أكثر مما استخفهم التطلع ليخرجوا فينظروا إلى هذا الرجل، وليروا هل تؤيد سماه حدسهم، أو هي تدعوهم إلى تعديله. لذلك لم يكن المشركون ولا كان اليهود أقلّ إقبالا من المسلمين، مهاجريهم والأنصار، على استقبال النبي. ولذلك أحاطوا به جميعا وكلّ يخفق قلبه خفقانا مختلفا عن غيره باختلاف ما يجول بنفسه إزاء القادم العظيم. وقد اتبعوه إذ ألقى بخطام ناقته على غاربها في شيء من عدم النظام أدى إليه حرص كلّ على أن يجتلي محيّاه، وأن يحيط نواحيه جميعا بنظرة ترسم في نفسه صورة من هذا الذي عقد بيعة العقبة الكبرى مع من بايعه من أهل هذه المدينة على حرب الأسود والأحمر من الناس، والذي هجر وطنه وفارق أهله واحتمل عداوتهم وأذاهم ثلاث عشرة سنة متتابعة، في سبيل توحيد الله توحيدا أساسه النظر في الكون، واجتلاء الحقيقة من طريق هذا النظر.
بركت ناقة النبي عليه السلام على مربد سهل وسهيل ابني عمرو، فابتاعه ليبنيه مسجدا له. وأقام أثناء بنائه في دار أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري. وعمل محمد في بناء المسجد بيديه، ودأب المسلمون من