أناخوا في ظل صخرة ليقيلوا وليرفهوا عن أنفسهم بعض ما أرهقها من وصب، ولينالوا من الطعام والشراب ما لعلهم يستعيدون به قوّتهم وصبرهم.
وبدأت الشمس تنحدر، وبدأ محمد وأبو بكر يفكران في امتطاء جمالهما إذ كانا من سراقة قيد البصر.
وكان جواد سراقة قد كبا به قبل ذلك مرّتين لشدة ما جهده. فلما رأى الفارس أنه وشيك النجاح وأنه مدرك الرجلين فرادّهما إلى مكة أو قاتلهما إن حاولا عن نفسيهما دفاعا، نسي كبوتي جواده ولزه ليمسك بيده ساعة الظفر. ولكن الجواد في قومته كبا كبوة عنيفة ألقى بها الفارس من فوق ظهره يتدحرج في سلاحه. وتطير سرادقه وألقى في روعه أن الآلهة مانعة منه ضالته، وأنه معرّض نفسه لخطر داهم إذا همّ مرة رابعة لإنفاذ محاولته. هنالك وقف ونادى القوم: أنا سراقة بن جعشم. انظروني أكلمكم، فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. فلما وقفا ينظرانه طلب إلى محمد أن يكتب له كتابا يكون آية بينه وبينه. وكتب أبو بكر بأمر النبي كتابا على عظم أو خزف ألقاه إلى سراقة، فأخذه وعاد أدراجه، وأخذ نفسه بتضليل من يطاردون المهاجر العظيم بعد أن كان هو يطارده.
وانطلق محمد وصاحبه يقطعان بطون تهامة في قيظ محرق تتلظى له رمال الصحراء، ويجتازان إكاما ووهادا، ولا يجدان أكثر الأمر ما يتقيان به شواظ الهاجرة، ولا يجدان ملجأ من قسوة ما يحيط بهما، وأمنا مما يتخوفان أن يفجأهما، إلا في صبرهما وحسن ثقتهما بالله وعظيم إيمانهما بالحق الذي أنزل على رسوله. وظلا كذلك سبعة أيام متتالية ينيخان في حمّارة القيظ ويسريان على سفينة الصحراء الليل كله يجدان في سكينته وفي ضوء النجوم اللامعة في ظلمته ما يطمئن له قلباهما وتستريح له نفساهما. فلما بلغا مقام قبيلة بني سهم وجاء إليهما شيخها بريدة يحييهما زالت مخاوفهما واطمأنت لنصر الله قلوبهما وقد صارا من يثرب قاب قوسين أو أدنى.
وفي فترة رحلتهما هذه المضنية كانت الأخبار قد ترامت إلى يثرب بهجرة النبي وصاحبه ليلحقا أصحابهما فيها. وكانت قد عرفت ما لقيا من عنت قريش ومن تتبعها إياهما. لذلك ظل المسلمون جميعا بها وهم ينتظرون مقدم صاحب الرسالة بنفوس ممتلئة شوقا لرؤيته والاستماع له. وكان الكثيرون منهم لمّا يروه وإن كانوا قد سمعوا من أمره ومن سحر بيانه ومن قوة عزمه ما جعلهم للقياه أشد إشتياقا، وإلى رؤيته أشد تطلعا. وإنك لتقدر مبلغ ما كانت تجيش به هذه النفوس حين تعلم أن من سادة يثرب من لم يروا محمدا من قبل، وإنما اتبعوه بعد أن سمعوا أصحابه الذين كانوا أشد المسلمين لدين الله دعوة ولرسول الله حبّا. جلس سعد بن زرارة ومصعب بن عمير في حائط من حوائط بني ظفر واجتمع إليهما رجال ممّن أسلموا؛ فبلغ نبؤهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وكانا يومئذ سيدي قومهما؛ فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارنا ليسفّها ضعفاءنا، فازجرهما، وانههما، فإن سعد بن زرارة ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما. فذهب أسيد إليهما يزجرهما. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكره؟ قال أسيد: أنصفت وركز حربته وجلس إليهما، وسمع إلى مصعب فقام مسلما، وعاد إلى سعد بوجه غير الوجه الذي تركه به. فغاظ ذلك سعدا، وقام هو إلى الرجلين، فكان أمره كأمر صاحبه وكان من أثر ذلك أن ذهب سعد إلى قومه فقال::
يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا: سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأيّا وأيماننا نقيبة.