أمَّا قوله: " فهل من معير " البيت، فهو مثل قول العبَّاس:

نزح البكاءُ دموعَ عينك فاستعِرْ ... عيناً لغيرك دمعُها مِدرارُ

مَن ذا يُعيرك عينَه تَبكي بها ... أرأيتَ عيناً للبكاءِ تُعارُ

وقريب منه قول الآخر:

ولِي كبِدٌ مقروحةٌ مَن يَبيعني ... بها كبداً ليستْ بذاتِ قُروحِ

أبَى النَّاسُ وَيبَ النَّاسِ لا يَشتَرونها ... ومَن يشتَرِي ذا عُرّةٍ بصحيحِ

وقع بين الأعراب وبين أخيه شرٌّ فقال:

ويزعم أقوام أتَوهُ بظنَّةٍ ... بأنْ سوفَ تأتيني عقاربُهُ تَسري

فودَّتْ رجالٌ لو تمادتْ بنا الخُطا ... إلى الغيّ أو تُلفَى علانِيةً تجْرِي

أبتْ رَحِمٌ أطَّتْ لنا مُرجحِنَّة ... أماني العدَى والكاشح الحسِكِ الصَّدرِ

فقلْ لوُشاة النَّاس لن تُذهب الرُّقَى ... ولا عاقداتُ السِّحرِ وُدَّ أبي عمرِو

أبو الميَّاح العبديّ:

ولا تعرضنْ للشَّرِّ من دون أهلهِ ... إذا كنتَ خِلواً عن أذاعُ بمعزِلِ

ومَن يَقِ أعراضَ الرِّجالِ بعرضِه ... يُبِحْ مَحْرماً من والدَيْه ويجهلِ

ولا تكُ ممَّن يُغلقُ الهمُّ بابَه ... عليه بمِغلاقٍ من العجزِ مُثقِلِ

ولا تجعلِ الأرض العريضَ محلُّها ... عليك سبيلاً وعْثةَ المتنقَّلِ

وإنْ خفتَ من دارٍ هواناً فوَلِّها ... سواكَ وعن دارِ الأذَى فتحوَّلِ

وما المرءُ إلاَّ حيثُ يجعلُ نفسَهُ ... ففي صالح الأخلاقِ نفسَك فاجْعَلِ

مُرَّة بن منقذ يرثي جاهل بن ظالم:

جَسورٌ لا يروَّعُ عند همٍّ ... ولا يَثني عزيمتهُ اتِّقاءُ

حليمٌ في شراسته إذا ما ... حُبَى الحُلَماء أطلَقَها المِراءُ

حليمٌ في عشيرته فقيد ... يطيب عليهِ في الملأِ الثَّناءُ

وإنْ تكنِ المنيَّةُ أقصدتْهُ ... وحُمَّ عليه بالتَّلَفِ القضاءُ

فقد أودَى به كرمٌ ومجدٌ ... وعَودٌ بالمكارمِ وابتداءُ

غنيّ بن مالك العُقيليّ:

ألاَ يا لقومٍ للمنيَّةِ ماتَنِي ... تكرُّ وما تشوى لِكِنٍّ قسيمُها

إذا كانَ بين المرءِ والدَّهر قسمةٌ ... أبى الدَّهرُ أن يرْمِي بها أو يَضيمُها

فكيفَ يرجَّى العاذلاتُ تجلُّدي ... وصَبْري إذا ما النَّفسُ صِيبَ حَميمها

قوله: " صِيبَ حميمها " بغير ألف لغةٌ فصيحة عنهم.

حدَّثنا ابن دريد عن أبي عبيدة، قال أبو حاتم: قال لي أبو عبيدة: تريد أن أنشدك شعراً يجمع لك فراسةَ الخيل؟ قلت: نعم، فأنشدني:

ذاك وقد أذعُرُ الوحوشَ بصَلْ ... تِ الخدِّ رحبٍ لبانُهُ مُجزرْ

طويلِ خمسٍ قصير أربعةٍ ... عريض ستٍّ مقلِّصٍ حشْوَرْ

حدت له تسعة وقد عريت ... تسع خفيه لناظر فنطره

ثمَّ لهُ تسعة كُسِين وقد ... أرحَبَ منه اللَّبانُ والمنخرْ

بعيد عشرٍ وقد قرُبنَ له ... عشرٌ وخمسٌ طالتْ ولم تقصُرْ

نُقفيهِ بالمَحْض دون وِلْدَتِنا ... وعُضُّهُ في آرِيِّه يُنثرْ

حتَّى شَتا بادناً يقال ألا ... يَطوون من بُدنهِ وقد أُضمرْ

موثَّقُ الخَلْق جُرشُعٌ عَتَدٌ ... مُنفرجُ الحُضْرِ حين يُستحضرْ

خاظِي الحَماتَين لحمُهُ زِيَمٌ ... نهدٌ شديد الصِّفاق والأبهرْ

رقيق خمسٍ غليظ أربعةٍ ... ناتي المعَدَّين ليِّنُ الأشعرْ

ذكر ابن قتيبة أنَّ هذا الشِّعر لا يخرَّج من العروض ولا ندري على ما يُترك هذا القول مع صحَّة هذا الشعر في الذَّوق وسلوكه في السَّمع، ويضطرب في الذَّوق مثل:

أقفَرَ من أهلهِ ملحوبُ ... فالقُطَبِيَّاتُ فالذَّنوبُ

ومثل:

هلْ بالدِّيار أن تُجيبَ صَمَمْ ... لوَ انَّ رَبْعاً ناطقاً كلمْ

وفي هاتين القصيدتين وغيرهما من الأبيات الَّتي تجفو على السمع ولا يصححها الذَّوق عددٌ كثيرٌ لو تتبعنا ذلك في هذين الشِّعرين دون غيرهما لكثر واتّسع ما يجفو عنه السّمع إلاَّ أنَّا نعلم أنَّهم لم يذكروا شيئاً من ذلك إلاَّ بحجَّة ناطقة وليلٍ صحيح، غير أنَّ الذوق يصحِّح هذه الأبيات الَّتي قدَّمنا ذكرها في صفة الفرس ولا ينبو عنها السَّمع لاطِّرادها واستقامتها وإن كانوا قد ذكروا أنَّها خارجة عن جميع الأعاريض الَّتي لأتت بها أشعار العرب.

مسرور بن ميسرة الضّبّيّ:

ألم أكُ ناراً يصطَليها عدوّكم ... وجِرزاً لِما ألجأتمُ من ورائيا

وباسطَ خيرٍ فيكمُ بيمينهِ ... وقابضَ شرٍّ عنكمُ بشمالِيا

ألاَ لا تَخافا نَبوتي في ملمةٍ ... وخافا المَنايا أنْ تَفوتكما بِيا

عاصم بن الحَدَثان الشَّاري:

وهُم إذا كسَروا الجفونَ أكارمٌ ... صُبُرٌ وحين تُحلَّلُ الأزرارُ

يغشَوْن حومات المَنون وإنَّها ... في الله عند نفوسهم لصغارُ

لا يشتَرون سوَى الثَّناء بمالِهم ... وهمُ إذا مدُّوا الرِّماحَ تِجارُ

أخذ كلام هذا البيت الأخير وبعض معناه، وإنْ كان قد قصَّر في ذلك، من قول أبي الطَمحَان القينيّ:

إذا لبسُوا عمائمَهم ثَنَوها ... على كرمٍ وإن سَفَروا أناروا

يبيعُ ويشترِي لهُم سواهمْ ... ولكن بالرِّماح همُ تِجارُ

إذا ما كنتَ جار بني خُرَيمٍ ... فأنتَ لأكْرم الثقلَين جارُ

وقد رويت هذه الأبيات لأبي يعقوب الخُرَيميّ ولمن كانت فهي جيّدة الكلام صحيحة المعنى.

النعمان بن بشير الأنصاري:

وإنِّي لأُعطي المالَ من كانَ سائلاً ... وأُدركُ للمولَى المعاندِ بالظُّلمِ

فلا تعدُدِ المولَى شريكك في الغنَى ... ولكنَّما المولَى شريكك في العدمِ

إذا مَتَّ ذو القربَى إليكَ برُحمِهِ ... غشّك واستغنَى فليسَ بذي رحمِ

ولكنَّ ذا القربَى الَّذي يستخفُّهُ ... أذاكَ ومِن يرمي العدوَّ الَّذي تَرمي

طريف الغَنَوي:

إنَّ قَناتي لنَبعٌ ما يليِّنُها ... غمزُ الثِّقاف ولا وهنٌ ولا عارُ

متى أُجِرْ خائفاً تأمَنْ مسارحهُ ... وإنْ أُخِفْ آمناً تغلقْ به الدَّارُ

عديّ بن الرِّقاع العامليّ ولا نعرف فيما خوطبت به الدَّار أحسن من هذه الأبيات:

فسُقيتُ من دارٍ وإنْ لم تسمعي ... أصواتَنا صوبَ الرَّبيع المُسبلِ

ورُعيت من دارٍ وإنْ لن تنطقي ... بجواب حاجتِنا وإن لم تعقِلي

قد كانَ أهلكِ مرَّةً لكِ زينةً ... فتبدَّلوا بدلاً ولم تستبدِلي

فأبْكي إذا بكتِ المنازلُ أهلَها ... معذورةً وظلمتِ إنْ لم تفعلِي

لبعض الزّجّار:

ما مِن هوَى أُمامةَ اعْتذارُ

ولا لحسرٍ عندها اعْتمارُ

بيضاءُ في وجنتِها احْمِرارُ

بعَينها يحلو لها النُّضارُ

هيَ اللَّيالي وهوَ النَّهارُ

ولآخر يهجو:

لو كنتَ ريحاً كانتِ الدَّبورا ... أو كنتَ غيماً لم يكنْ مَطيرا

أو كنتَ ماءً لم يكنْ طَهورا ... أو كنتَ مُخّاً كنت مخّاً رِيرا

مثله لآخر:

لو كنتَ ماءً لم تكنْ بعذبِ ... أو كنتَ سيفاً لم تكنْ بعَضبِ

أو كنتَ لحماً كنتَ لحمَ كلبِ ... أو كنتَ عَيْراً لم تكنْ بنَدْبِ

مثله لآخر:

لو كنتمُ شاءً لكنتم نَقَدا ... أو كنتم ماءً لكنتم زَبَدَا

أو كنتمُ طيراً لكنتمْ صُرَدَا ... أو كنتم عِدّاً لكنتم ثَمَدا

أو كنتمُ صُوفاً لكنتمْ قَرَدَا ... أو كنتم لحماً لكنتم غُدَدَا

أبو دؤاد الإياديّ:

نَعَى ابنُ حَريزٍ جاهلٌ بمصابهِ ... فعمَّ نِزاراً بالبُكا والتَّحوُّبِ

نعاهُ لنا كاللَّيثِ يَحمي عرينهُ ... وكالبدرِ يُعشي ضوءهُ كلّ كوكبِ

وأصبَر من عَودٍ وأهدَى إذا سَرَى ... من النَّجمِ في داجٍ من اللَّيل غيهبِ

وأذْرَبَ من حدِّ السِّنان لسانُهُ ... وأمضَى من السَّيف اليمانيّ المشطَّبِ

زعيم إيادٍ كلّها وخطيبها ... إذا قامَ طأطأ رأسه كلّ مِشغبِ

سليل قرومٍ سادة الفضل قادة ... يبُذُّون يومَ الجَمْع أهلَ المحصَّبِ

أعرابيّ:

أبيتُ ويأبَى النَّاسُ لي أنْ يُذِلَّني ... وقوفٌ ببابٍ ردَّني عنه حاجبُ

أَأُوجبُ حقّاً لامرئٍ غيرِ موجبٍ ... لحقِّي لقد ضاقتْ عليَّ المذاهبُ

آخر:

إذا المرءُ أولاكَ الهوانَ فأولِهِ ... هَواناً وإن كانتْ قريباً أواصرُهْ

فإنْ أنتَ لم تقدِرْ على أنْ تُهينهُ ... فذرْهُ إلى اليومِ الَّذي أنتَ قادرُهْ

وقاربْ إذا ما لم تكنْ لك قدرةٌ ... وصمِّمْ إذا أيقنتَ أنَّك عاقرُهْ

هذا مثل قول المنصور:

إذا مدَّ يدَه إليك عدوُّك ... ولم تقدِر على قطعها فقبِّلْها

أعرابيّ من بني أسد قصر به ماله عن التزوج فقال:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015