أرُوضُ صِعابَ قوافي القري ... ضِ حتَّى تذِلَّ فأخْتارَها

قوافٍ يورِّدُها صاحبي ... إليَّ وأكْفيهِ إصْدارَها

قال صعودا: فوالله لقد جهدنا به كلّ الجهد أن يعرّفنا من قائل هذا الشِّعر فلم يفعل، فلما حضرته الوفاة كتب وصيَّته. فقلت له: ما لتلك القصيدة في قلبي حلاوة حتَّى أعرف قائلها، فإن رأيت أن تعرّفني من قالها. فضحك لي وقال: قد كنت أتوهّمك موضعاً للوصيَّة، وأمَّا الآن فما أرى لك عقلاً، انْبِذ إليَّ بكتاب الوصيَّة. أتراني كنت في حالٍ من الأحوال أسوأَ أخلاقاً منِّي وأنا أستبينُ الموتَ في حركاتي، والله لا عرفتَ قائلها منِّي أبداً. هات الوصيَّة وقمْ، فأخذها منِّي وانصرفت ومات في آخر يومه.

وقال سويد بن كراعٍ:

خليليَّ قُوما في عُطالةَ فانْظُرا ... أناراً ترَى من نحو يَبْرِينَ أم برقا

فإنْ يكُ برقاً فهو في مُشمخِرَّةٍ ... يُغادرُ ماءً لا قليلاً ولا طَرْقا

يهبُّ برَيعان السَّحاب كأنَّما ... يُقوِّدُ أفراساً مُجنَّبةً بُلْقا

وإنْ تكُ ناراً فهْيَ نارٌ بملتقًى ... من الرِّيح تزهاها وتَعفِقها عَفْقا

لأُمِّ عليٍّ أوقدتْها طَماعةً ... لأوبةِ رُكبانٍ تكونُ لها وَفْقا

متى تَرفعا العينَ البصيرةَ تعلَما ... بأنَّ المنايا قد قطعنَ بنا خَرْقا

يُحاذرنَ رَوعاتِ السِّياط كأنَّما ... يُحاذرنَ نُشَّاباً رُمينَ به رَشْقا

وكائنْ قطَعنا بعدكم من تَنوفةٍ ... من الأرضِ لم تُقطعْ أضالِعُها عَزْقا

تقومُ بها الوجناءُ وهْيَ رذِيَّةٌ ... كَلالاً وينسَى ذو المخالجة العشقا

المخالجة: المجاذبة إلى شيء آخر، ومنه سمِّي الخليج خليجاً لأنه جذَبه عن دجلة.

إذا غيَّرَ اللَّيلُ النَّارَ وأظلمتْ ... رَمينا بها حتَّى تراءى لها فَتْقا

خُفاف بن ندبة السلَميّ:

إذا أنا وافاني حِمامي ومَضجعي ... وسُوِّي عليَّ جندلٌ وكثيبُ

فكلُّ وفاءٍ عند ذلك ميِّتٌ ... وكلُّ رجاءٍ عند ذاك يَخيبُ

وكلُّ سنانٍ في الأنامِ ولِهْذِمٍ ... ومسرورةٍ وجْداً عليَّ تذوبُ

عُمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:

غدا ناعيك حين غدا بخطبٍ ... يَبُثُّ الشَّيبَ في رأسِ الوليدِ

ويُقعدُ قائماً يُشجِي حشاهُ ... ويُطلقُ للقيامِ حِبَى القعودِ

وأمستْ خُشَّعاً منه بِرازٌ ... مُركَّبةَ الرَّواجبِ في الخدودِ

عقيل بن علقمة المُرّي:

أحقّاً عباد الله أنْ لستُ لاقياً ... عُمارةَ طولَ الدَّهر إلاَّ توهُّما

فأُقسمُ ما جشَّمتُهُ من عظيمةٍ ... تَؤودُ كرامَ النَّاس إلاَّ تجشُّما

ولا قلتُ مهلاً وهْوَ غضبانُ قد غَلا ... منَ الغيظِ وسطَ القومِ إلاَّ تبسُّما

وله:

خليليَّ زُورا قبرَ عمرٍو فسلِّما ... عليه وجُودا بالدُّموعِ الجوامدِ

ولا تُعجلا بي أنْ أُلمَّ بأعظُمٍ ... ورمْسٍ بشرقيِّ الهَباءة هامدِ

وفي القبر نَفسي أو كنَفْسي رهينةٌ ... أتَى دونَهُ مرُّ المنايا الرَّواصدِ

فبُوركتَ من قبرٍ وبوركتِ بُقعةً ... بها مكَّثت للَّحْد أيدي اللَّواحدِ

سقَى اللهُ أكفاناً هناك وأعظُما ... غيوثَ السَّواري والغوادي الرَّواعدِ

أَأَبكي على عمرٍو فكفَّايَ هالَتَا ... عليه التُّربَ من نَثيلٍ ولابدِ

كأنِّي لعمرٍو كنتُ أُبدي عداوةً ... بحَثْوِي عليه التُّربَ فوقَ الجلامدِ

بِشر بن أبي خازمٍ الأسديّ:

أسائلةٌ عُميرةُ عن أبيها ... خِلالَ الجيشِ تعترِض الرِّكابا

تؤمّلُ أنْ يؤوبَ لها بنهبٍ ... ولم تعلمْ بأنَّ السَّهمَ صَابا

فإنَّ أباكِ قد لاقَى غُلاماً ... كميشَ القلبِ يلتهبُ الْتِهابا

فرَجِّي الخيرَ وانتظرِي إيابي ... إذا ما القارظُ العَنَزِيُّ آبا

فمن يكُ سائلاً عن بيت بِشرٍ ... فإنَّ له بجَنبِ الهضبِ بابا

ثوَى في مُلحَدٍ لا بدَّ منه ... كفَى بالموتِ نأياً واغْتِرابا

رهينَ بِلًى وكلُّ فتًى سيَبْلَى ... فسُحِّي الدَّمعَ وانتحِبي انْتِحابا

مضَى قصدَ السَّبيل وكلُّ حيٍّ ... إذا حانتْ منِّيَّتُهُ أجابا

فإنْ أهلِكْ عُميرَ فرُبَّ زحفٍ ... يشبَّهُ نقعُهُ رهْواً ضَبابا

سموتُ له لأُلبسهُ بزحفٍ ... كما لُفَّتْ شآميةٌ سَحابا

على رَبِذٍ قوائمُه إذا ما ... شأتْهُ الخيلُ ينسكبُ انْسكابا

شديد الأسرِ يحملُ أرْيَحيّاً ... أخا ثقةٍ إذا الحدَثانُ نابا

صَبوراً عند مُختلفِ العَوالي ... إذا ما الحربُ أبرزتِ الكعابا

الحارث بن هلال التّميميّ وكان هرب في بعض الوقائع فعيَّرته امرأته بفراره فقال:

أعاذِلَ إنِّي لم أُلَمْ في قتالهم ... وقد عضَّ سيفي كبْشَهم ثمَّ صمَّما

أعاذِلَ كم مِن يوم حربٍ شهدتُهُ ... أكُرُّ إذا ما فارسُ القَوم أحْجَما

أعاذِلَ ما ولَّيتُ حتَّى تبدَّدتْ ... رِجالي وحتَّى لم أجدْ مُتقدَّما

وحتَّى رأيتُ الوردَ يدمَى لَبانُهُ ... وقد كعَّتِ الأبطالُ فانْتَعلَ الدَّما

أعاذِلَ أفْناني السِّلاحُ ومَن يُطلْ ... مُقارعةَ الأبطال يرجع مُكلَّما

الضحَّاك بن قيس الحارثيّ:

سقَى اللهُ أجداثاً ورائي تركتُها ... بحاضرِ قِنَّسْرين من سَبَل القطرِ

ثَوَوا لا يُريدون الرَّواحَ وغالَهم ... من الموتِ أسبابٌ تجيءُ على قدرِ

لعمري لقد وارتْ وضمَّتْ قبورُهم ... أكُفّاً شدادَ القبضِ بالأسَلِ السُّمرِ

يُذكِّرُنيهم كلّ خيرٍ رأيتُهُ ... وشرٍّ فما أنْفكُّ منهم على ذكْرِ

البيت الأخير مثل قول الآخر:

يذكرنيك الخير والشر والذي ... وأرجو والذي أتوقع

ومن هذا المعنى قول مسلم:

يذكِّرُنيكَ الفضلُ والجودُ والحِجَى ... وقِيلُ الخنَا والحلمُ والعلمُ والجهلُ

فألقاكَ عن مذمومِها متنزِّهاً ... وألقاكَ في محمودِها ولك الفضلُ

وأحمدُ من أخلاقِك البخلَ إنَّه ... بعِرْضك لا بالمالِ حاشا لك البخلُ

وما نعرف في هذا المعنى أحسن من هذه الأبيات، فكلّ من رامها قصَّر عنها ولم يبلغ مداها. ولله درُّ عبد الصمد بن المعذَّل فقد طرّف هذا المعنى وجوَّده بقوله:

بالله أحلفُ إنِّي لستُ أذكرُهُ ... وكيفَ يذكرُهُ مَن ليس ينساهُ

شبيه بقول الآخر:

لمْ يُذكِّرْنِيك شوقٌ حادثٌ ... إنَّما يذكُرْ مَن كانَ سَها

ومن المعنى الأوَّل قول الآخر:

ما ذرّ قرن الشَّمس إلاَّ ذكرتُها ... وتُذْكِرُنيها ما دنتْ لغروبِ

وأذكرها ما بين ذاك وبين ذا ... وباللَّيل أحْلامي وعند هُبوبي

وبلَّيتُها شوقاً وبلاَّنيَ الهوَى ... وأعيا الَّذي بي طِبَّ كلّ طبيبِ

وأعجبُ أنِّي لا أموتُ صبابةً ... وما تلفٌ من عاشقٍ بعجيبِ

وكم لامَ فيها مِن مُؤدٍّ نصيحةً ... فقلتُ له أقصِرْ فغيرُ مُصيبِ

أتأمَنُ إنساناً يفارقُ قلبَهُ ... أتَصلح أجسادٌ بغير قلوبِ

وكلّ محبٍّ قد سَلا غير أنَّني ... غريبُ الهوَى يا ويحَ كلِّ غريبِ

المعنى الَّذي نحن في ذكره البيتان الأوَّلان وإنَّما ذكرنا غيرهما من هذه الأبيات لأنَّها من نسيب الأعراب وهو غرضنا وما شاكله من أشعارهم في هذا الكتاب. وأمَّا قول الخنساء فهو نوعٌ من هذا المعنى إلاَّ أنَّها أرادت بهذا البيت نفسه أنَّها تذكره عند طلوع الشَّمس لأنه وقت الغارة ووقت غروبها وهو وقت مجيء الأضياف.

أعرابيّ:

عدوُّ تِلادِ المال فيما ينوبُهُ ... مَنوعٌ إذا ما منعُهُ كانَ أحْزَما

مُذلِّلُ نفسٍ قد أبتْ غير أن ترَى ... مَكارهَ ما تأتي من الحقِّ مغْنَما

أبو دهبل الجمحيّ ويقال إنَّها للخارجيّ:

أقولُ والرَّكبُ قد مالتْ عمائمُهم ... وقد سقاهُم بكأس النَّشوةِ السَّهَرُ

يا ليتَ أنِّي وأثوابي وراحِلَتي ... عبدٌ لأهلكِ طولَ الدَّهرِ مُؤتجرُ

إنْ كانَ ذا قدَراً يُعطيكِ نافلةً ... منَّا ويحرِمُنا ما أنصفَ القدَرُ

جِنِّيَّةٌ أولَها حِنٌّ يعلِّمُها ... رَميَ القُلوب بقوسٍ ما لَها وتَرُ

أخبرنا ابن دريد عن عبد الرحمن عن الأصمعي قال: سألتُ ذفافة بن مقدام العبسيّ، وكان فصيحاً، فقلت: هل كانت أوائل العرب تعرف الفتوَّة؟ قال: إيه الله لقد انتظم ذاك أخو بني مازن بقول:

إنَّ الفتوَّةَ والمُرُو ... ءةَ لا تكونُ بغير زادِ

ولها عتادٌ يَقْتَفِي ... هِ المرءُ من خير العتادِ

نفسٌ تعفُّ عنِ الخَنا ... ويدٌ تهلَّلُ بالتِّلادِ

ومهنَّدٌ قَضَّابةٌ ... ومقلِّصٌ سلِسُ القيادِ

ومُفاضةٌ سَرْدٌ كأ ... نَّ قتيرَها حدقُ الجرادِ

ومُسيِّعٌ بين الضُّلو ... عِ عتادَ مُمتنع الفؤادِ

طلاَّبُ أوتار العَشِي ... رَةِ فوقَ أوتار الأعادي

أمَّا قوله: " ومفاضة سرد " البيت، فقد أتى به جماعة من الشعراء ونظنّ الأصل فيه هذا البيت أو قول عمرو بن معدي كرب:

وكلّ مفاضةٍ كالنِّهْي زَغْفٍ ... كأنَّ قتيرَها حدقُ الجَراد

من القديم الجيد في هذا المعنى قول النمر بن تولب:

وكأنَّما انطمرَتْ جنادبُ حَرَّةٍ ... في سرْدها فرمتْك عن أبصارِها

أخذه الأخطل فقال:

زَغْف كأنَّ قتيرَها ... تَرميك من حَدَق الجنادبْ

وممَّن جوَّد هذا التشبيه وزاد فيه زيادةً بيّنة ابنُ سلام المكاري في قصيدته الَّتي يرثي فيها يحيى بن عمر العلويّ عليه السَّلام:

تضايق منها السّرْدُ حتَّى كأنَّها ... تَخازَر فيها بالعيونِ الجنادبُ

هذا البيت أجود ما نعرف في هذا المعنى، فأمَّا قول ابن الروميّ:

تغلغَلَ الرّمحُ في الدِّرعِ الَّتي رُتِقتْ ... رتْقاً فلو صُبَّ فيها الماءُ رشَحا

فهو عندنا خطأ لأنَّ هذه الصفة بالسُّور الحديد أولى منها بصفة الدّرع، وهذا من المبالغة الَّتي تُحيل المعنى.

حدَّثنا الصّوليّ عن أبي العيناء قال: حدَّثنا الزّبير بن بكّار قال: حدَّثني محمد بن إبراهيم اللّيثيّ قال: حدَّثنا محمد بن معن الغفاريّ قال: أقحمتِ السّنةُ ناساً من الأعراب فحلُّوا المذار فأبرقوا فإذا غلامٌ منهم قد عاد جِلداً وعظماً وهو رافع عقيرته يتغنَّى بأبيات قالها عند نظره إلى البرق وهي:

ألا يا سَنا برقٍ على قُلَل الحمَى ... ليَهْنك من برقٍ عليَّ كريمُ

لمعنُ اقْتِذاءَ الطَّير والقومُ هُجَّعٌ ... فهيَّجْتَ أحزاناً وأنت سليمُ

لمعتُ بحدّ المرفقين أشيمُهُ ... كأنِّي لبرقٍ بالسّتارِ حميمُ

فهلْ من مُعيرٍ طرفَ عينٍ خليَّةٍ ... فإنسانُ عَين العامرِيّ كليمُ

رمَى قلبَهُ البرقُ اليمانيُّ رميةً ... بذكر الحِمَى وَهْناً فكاد يهيمُ

فقلت: يا غلام! في دون ما بك ما يُفحم عن الشِّعر، فقال: أجل ولكنَّ البرق أنطقني، قال: فما مكث يومه ذلك حتَّى مات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015