سقَى اللهُ ليلاً ضمَّنا بعد هجعَة ... وأدنَى فؤاداً من فؤاد معذَّبِ

فبِتنا جميعاً لو تُراق زجاجةٌ ... من الرَّاحِ فيما بيننا لم تسرَّبِ

ومن مليح ما قيل في العناق قول ابن المعتزّ:

كأنَّني عانقتُ ريحانةً ... تنفَّستْ في ليلها البارِدِ

فلو تَرانا في قميص الدُّجَى ... ظننْتَنا في جسدٍ واحدِ

وإلى هذا أشار ابن طباطبا في قوله:

وليلٍ نصرتُ الغيَّ فيه على الرُّشدِ ... وأعديتُ حالَ القربِ منه على البعدِ

وضيَّقتُ فيه من عناقِ مُعانقي ... فظنَّ وِسادِي أنَّني نائمٌ وحدِي

وللبحتري في العناق أيضاً:

ومن قُبَلٍ قبلَ التَّشاكي وبعدَه ... نكاد بها من لذّة اللّثم نَشرقُ

وقد لفَّنا وشكُ الفراق وضمَّنا ... عناقٌ على أعناقنا ثَمَّ ضيّقُ

ليس يجوز أن نستقصي ما قيل في هذا الباب إذا عنَّ في موضع واحد، لأنه لا بدَّ أن تردَّد في مواضع؛ فلذلك نترك نظائر كثيرة احتياجاً إليها لموضوع آخر.

قال: ولمَّا طال تشبيب عبد بني الحسحاس بنساء قومه وذكرهنَّ في الشعر بمثل قوله:

وهنَّ بناتُ القومِ أنْ يشعرُوا بنا ... يكُنْ في بناتِ القومِ إحدى الدَّهارسِ

وكمْ قد شقَقْنا من رداءٍ ومِطرَف ... ومن برقعٍ عن طَفْلة غير عانِسِ

إذا شُقَّ بردٌ شُقَّ بالبُردِ برقُع ... دَوَاليك حتَّى كلُّنا غيرُ لابِسِ

توامر قومه في قتله واجتمعوا لذلك في شرب لهم وأحضروه معهم وكان شجاعاً رامياً وكانت قوسه لا تفارقه ولا يقدر أن يوتِّرها غيره، فلمَّا أخذ فيهم الشراب قال له بعضهم: يا سحيم أراك تقطع وتر قوسك هذه إن شُددتَ به كتافا؟ قال: نعم، قالوا: حتَّى ننظر، فأمكنهم من نفسه حتَّى أوثقوه بالوتر. قالوا له: اقطع، فانتحى فيه فلم يقطعه، فحين رأوا ذلك وثبوا إليه بالخشب فضربوه حتَّى كادوا يقتلونه ثمَّ تعاذلوا في أمره وتركوه رحمةً له، فمرَّت به امرأة من نسائهم وهو مكتوف ونظر إليها فقال وهم يسمعون:

فإنْ تضحَكِي منِّي فيا رُبَّ ليلةٍ ... تركتُكِ فيها كالقَباءِ المفرَّجِ

فوثبوا إليه بأجمعهم فلمَّا علم أنَّه القتل قال أيضاً:

ولقد تحدَّرَ مِن كرائمِ بعضكم ... عَرَقٌ على مَتْن الفِراش وَطِيبُ

فلما سمعوا هذا البيت قتلوه، وبيتُه هذا بيت نكد وذلك أنَّه عمَّهم كلّهم بالعار ورماهم بالفضيحة لقوله: " من كرائم بعضكم " أي من امرأته أو ابنته أو أخته، ولو أنَّه خصَّ واحداً دون الجميع لكان العار لازماً له دون غيره، ولكنَّه جمعهم كلّهم، فيجوز أن يقول كلّ واحد منهم لصاحبه متى عيَّره بهذا البيت: إيَّاك أراد بالقول دوني، وقد أحسن الكناية عن الجماع بقوله:

ولقد تحدَّرَ مِن كريمة بعضكم ... عَرَقٌ على مَتْن الفِراش وَطِيبُ

لأن العرق يعتري المرأة في ذلك الوقت، ومن الكناية أيضاً عن الجماع قول بعض الأعراب:

فإن كانَ فيكم بعلُ ليلى فإنَّني ... وذي العرش قد قبَّلتُ ليلى ثمانيا

وأُقسمُ عندَ الله أنْ قد رأيتُها ... وعِشرونَ منها إصبعاً من ورائِيا

وإنْ كانَ فحش فيما ذكر فقد أحسن الكناية، وقد ذكرنا بعض قصيدة عبد بني الحسحاس الَّتي سمَّاها المفضَّل الدِّيباج الخسروانيّ وتكلَّمنا على بعض ما أخذه من غيره وأُخذ منه من بعده، وقصيدة الصِّمَّة القشيريّ عندنا أطرف كلاماً منها وأملح ديباجة، ونختار منها ما يستحسن فمن ذلك:

حننْتَ إلى ريَّا ونفسكَ باعدتْ ... مزارَكَ من ريَّا وشَعْباكما معَا

فما حسنٌ أن تأتيَ الأمرَ طائعاً ... وتجزعَ أن داعي الصَّبابةِ أسمعَا

قِفا ودِّعا نجداً ومن حلَّ بالحمَى ... وقلَّ لنجدٍ عندنا أن يُودَّعا

ألا ليسَ أيَّام الحمَى برواجعٍ ... عليك ولكن خلِّ عينيكَ تدمَعَا

بكتْ عينيَ اليُسرَى فلمَّا زجرتُها ... عن الجهلِ بعد الحلْمِ أسبَلَتا معَا

وأذكُرُ أيَّامَ الحمَى ثمَّ أنْثَني ... على كبِدِي من خشيةٍ أنْ تصدَّعا

ألا يا خليليَّ اللَّذين تواصَيا ... بلومِيَ إلاَّ أنْ أُطيعَ وأتْبَعا

فإنِّي وجدتُ اللّومَ لا يُذهب الهوَى ... ولكنْ وجدتُ اليأسَ أجدَى وأنْفَعا

وسرب بدتْ لي فبه بِيضٌ نواهِدٌ ... إذا سُمتُهنَّ الوصلَ أمسينَ قُطَّعا

مَشَينَ اطّرادَ السَّيل هوناً كأنَّما ... تراهنَّ بالأقدامِ إذ مِسْنَ ظُلَّعا

فقلتُ سقَى اللهُ الحمَى دِيَمَ الحَيَا ... فقلنَ سقاكَ الله بالسّمّ منقَعَا

وقلتُ عليكنَّ السَّلامُ فلا أرَى ... لنفسيَ من دونِ الحمَى اليومَ مَقْنَعا

فقلنَ أراكَ اللهُ إن كنتَ كاذباً ... بنانكَ مِن يُمنَى ذراعيكَ أقطَعَا

فلم أرَ مثلَ العامريَّة قبلَها ... ولا مثلَها يومَ ارْتحلْنا مُودَّعا

تُريكَ غداةَ البينِ مقلةَ شادنٍ ... وجيدَ غزالٍ في القلائدِ أتلَعَا

شكوتُ إليها ما أُلاقِي من الهوَى ... وخشْيةَ شَعب الحيِّ أن يتصدَّعا

فما كلَّمتْنا غيرَ رجعٍ وإنَّما ... ترقرقتِ العينان منها لتَدْمَعا

كأنَّك بدعٌ لم تَرَ البينَ قبلَها ... ولم تكُ بالألاّف قبلُ مُفجَّعا

فليت جِمالَ الحيِّ يومَ ترحَّلوا ... بذي سلَمٍ أمستْ مَزاحيفَ ظُلَّعا

فيُصبحنَ لا يُحسنَّ مشياً براكب ... ولا السَّيرَ في نجدٍ وإنْ كانَ مَهْيَعا

أتجزعُ والحَّانِ لم يتفرَّقا ... فكيف إذا داعِي التَّفرُّقِ أسمَعَا

تلَفَّتُ نحو الحيِّ حتَّى وجدتُني ... تشكَّيتُ للإصغاءِ لِيتاً وأخْدَعا

أما قوله: " حننت " البيت والَّذي بعده فقد أخذه منه جماعة وهو المخترع له، فممَّن أخذه بعضهم فقال:

تطوِي المنازلَ عن حبيبك طائعاً ... وتظلُّ تَبْكيه بدمعٍ ساجمِ

هلاَّ أقمتَ ولو على جَمْر الغَضَا ... قُلِّبتَ أو حدِّ الحُسام الصَّارمِ

كَذَبَتْكَ نفسُك لست من أهل الهوَى ... تشكو الفراقَ وأنتَ عين الظَّالمِ

ومثله آخر:

أترحَلُ عن حبيبك ثمَّ تَبْكي ... عليه فما دعاك إلى الفراقِ

كأنَّك لن تذُقْ للبَين طعماً ... فتعلمَ أنَّه مُرُّ المذاقِ

ومثله:

يسُبُّ غرابَ البين ظُلْماً معاشِرٌ ... وهم آثروا بعدَ الحبيب على القُرْبِ

ومثله:

أترحَلُ طوعَ النَّفس عمَّن تحبُّه ... وتبكي كما يبكي المفارِقُ عن قَهْرِ

أقِمْ لا ترمْ والحزمُ منك بمعزل ... ودمعُك باقٍ في جفونك لا يجري

أعرابيّ وبات عند رجل فلم يحمد ضيافته وقال:

أعوذُ بربِّي أن أبيتَ بليلةٍ ... كلَيلتِنا بالنّعفِ عند بَشيرِ

فلمّا أتيناه استثار رمادَهُ ... بكلب إلى جنب الصِّلاء عقورِ

يشقِّقُ أثوابَ الغريب ببابه ... ويخلِطُ نَبْحاً فاحشاً بهريرِ

أتيناهُ نسْتدعي القِرى فأحالَنا ... على شمأل مضْروبةٍ ودَبورِ

مُدِلٌّ على ميْن الطريق بلومه ... يرى طردَهُ الأضيافَ غيرَ كبير

يريد أنَّ البخيل عندهم ينزل في بطون الأودية وبالبعد عن الطريق مخافة الضيفان كالذي يقول:

إنَّ الَّذي جعل الطّريق لبَيْته ... طُنُباً وضنَّ بزاده للَئيمُ

فيقول الأول إن هذا من لؤمه لا يبالي حيث نزل على طريق أو غيره لأنه ليس ممن يفكّر في الذّمّ إذا لم يقْرِ الضيف.

ومثل معناه قول الآخر:

عُبيدة بن غالب ... بئس مناخُ الرّاكبِ

ينبحنا من جانب ... وكلبه من جانبِ

من شأن كلب الكريم إذا نظر إلى الضيف تركُ النّباح كما ذكرنا في عدة مواضع وكلب البخيل يكثر النّباح على الضيف، والكلبُ الدليلُ للضّيف على كرم الرَّجُل ولؤمه، فلذلك ذكرنا نباح الكلب ها هنا. ومن المعنى الَّذي نحن فيه ما أنشدنا ابن دريد لبعض الأعراب:

لا صبَّح الله أبا المصَبّح ... إلاَّ بوغْدٍ مثلهِ مُكلّحِ

زُرناه غبَّ عارضٍ مروَح ... يهطل بالماء إذا لم ينضَحِ

فعاد من خوف القِرى والمسرح ... برميهِ النّارَ ودفنِ المقدحِ

وضربهِ الكلبَ إذا لم ينبحِ

مثله:

أتيناهُ أضيافاً فأشلى كلابَهُ ... علينا فكدْنا بين بيتَيْه نُؤكَلُ

مثله للبحتري:

لا تُجْزَينَّ أبا عبيدةَ صالحاً ... عن قُبْحِ وقفتِنا بقنَّسْرينا

جُزْنا وما كان الجَوازُ هوًى لنا ... نَصبين من تعب السُّرى لَغبينا

وسرَتْ كلابُك بالنّباح كأنّما ... يطلُبْن ثأراً قد تقادمَ فينا

متتابعات بالعُواء وراءنا ... حتَّى طرحْنا زادَنا فرضينا

مثله:

قد علَّمَ الكلبَ نُباحَ الضَّيفِ ... وأمَّنَ البُزْلَ بريقَ السَّيفِ

أعرابيّ وسأل قوماً قريبي العهد بالغنى فحرموه فقال:

مدحْتُ عروقاً للنَّدى مصَّتِ الثَّرى ... قريباً فلم تهمُمْ بأنْ تتزعْزَعا

نقائذَ بُؤس ذاقتِ الفقرَ والغنى ... وحلَّبتِ الأيّامَ والدَّهرَ أضْرُعا

سقاها إلهُ الناسِ سجلاً على الظَّما ... وقد كربَتْ أعناقُها أن تقطَّعا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015