وقد كنت أرجو أن تموتَ صبابتي ... إذا قدُمَتْ آياتُها وعهودُها
فقد جعلَتْ في حبَّةِ القلب والحشا ... عِهادُ الهوَى تولي بِشوق يزيدُها
وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى أزورها ... أرى الأرض تُطوى لي ويدنو بعيدُها
من الخفرات البيض ودّ جليسُها ... إذا ما قضَتْ أُحدوثة لو تعيدها
خليليّ إنِّي اليوم شاكٍ إليكما ... وهل تنفع الشكوى إلى من يزيدُها
حَزازات شوق في الفؤاد وعَبرةً ... أظلُّ بأطراف البنان أذودُها
وتحت مجال الدمع حرّ بلابل ... من الشوق لا يُدعى لخطبٍ وليدُها
نظرتُ إليها نظرةً ما يسرُّني ... بها حُمرُ أنعام البلاد وسودُها
إذا جئتُها وسطَ النساء منَحتُها ... صدوداً كأنَّ النفس ليس تريدُها
ولي نظرةٌ بعدَ الصدود من الجوى ... كنظرة ثكلى قد أُصيبَ وحيدُها
رفعتُ عن الدُّنيا المُنى غير وجهها ... فلا أسألُ الدُّنيا ولا أسْتزيدُها
هذه الأبيات من جيد غزل الأعراب ونادره، وفيها أشياء لها نظائر نحن نذكر بعضها، فمن ذلك قوله: " وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي " البيت، وقوله " فقد جعلت في حبة القلب والحشا " البيت، وهذا المعنى جيد، يقول: كنت أرجو أن تموت صبابتي إذا تطاولت الأيام، فلما اشتدت وتطاولت زادت صبابتي، وشبيه بهذا قول الشاعر وهو عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
وعلَّقت ليلى وهي ذات ذؤابة ... ترُدُّ علينا بالعشيّ المراميا
فشاب بنو ليلى وشاب بنو ابنها ... وهذي بقايا حبّ ليلى كما هيا
وقال آخر مثله:
فشاب بنو ليلى لِصُلبي وأدركوا ... وشاب بنوهم وهي مالكة قلبي
فأما قوله: " وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها " البيت، فقد أخذه أبو نواس فقال:
قالت لقد أبْعدَ المسرى فقلتُ لها ... من عالج الشوقَ لم يستبعد الدَّارا
ومثله قول الآخر:
وإذا أتَيتك زائراً متشوقاً ... قصر الطريقُ وطال عند رجوعي
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: قلتُ لزهراء الأعرابية: كم بيننا وبين منزلك؟ فقالت:
أما على كسلانَ وانٍ فنازِح ... وأما على ذي حاجة فقريبُ
وأما قوله " من الخفرات البيض " البيت، فأحسنُ ما قيل في معناه، وقد تركنا نظائر كثيرة له في صدر هذا الكتاب ونحن نذكر ههنا شيئاً مما لم نذكره هناك، فمن ذلك قول الشاعر:
كأنَّما عسَل رجعانُ منطقها ... لو أن رجع كلام يُشبه العسَلا
آخر:
وإنّا لَيَجْري بيننا حين نلتقي ... حديثٌ له وشيٌ كوشي المطارفِ
حديث كوقع القَطر في المحل يَشتفي ... به من جَوى في داخل القلب شاغفِ
بشار:
ولها مضحكٌ كغرّ الأقاحي ... وحديث كالوشي وشي البرودِ
نزلَتْ في السواد من حبَّة القَلْ ... بِ ونالت زيادة المستزيدِ
ذو الرمّة:
ونِلْنا سِقاطاً من حديث كأنّه ... جنى النَّخل ممزوجاً بماء الوقائعِ