وقد ذكر جماعة من الشعراء أنَّ الشكر يوازي النعمة، فإن زاد شكر على النعمة كان أفضل منها، وإن كان مثلها لم يكن لأحدهما فضل على الآخر، ومن ذلك قول مسلم بن الوليد، وهذه القطعة الَّتي نذكرها من المعاني المخترعة الجياد، وهي قوله:
سبقتَ بمعروف فصلى ثنائِيا ... فلمَّا تمادَى جرْيُنا صِرتَ تالِيا
أبا حسنٍ قد كنتَ قدَّمتَ نعمة ... وألحقتَ شكراً ثمَّ أمسكتَ عانِيا
فلا ضيرَ لم يلحقك منِّي ملامةٌ ... أسأتَ بنا عَوداً وأحسنتَ بادِيا
فمِلآنَ لا يغدو عليك مدائحي ... جوازي نُعمى قد نَضَت أو رواجِيا
لعلَّك يوماً أن تُسيءَ بصاحبٍ ... فتذكُرَ إحساني به وبلائِيا
ما نعرف في معنى هذه الأبيات مثلها إلاَّ أنَّ عبد الصمد بن المعذَّل حذا حذوها وتناول معانيها فقال:
برزَ إحسانُك في سبقه ... ثمَّ تلاهُ شُكر لاحقُ
حتَّى إذا امتدَّ المدَى بينَنا ... جاء المصلّى وهو السابقُ
هذا معنى مسلم بعينه، ومعنى هذين الشعرين أنهما أرادا أنَّ هذا المعطي تقدَّمت عطيَّته وثنى الشاعر بالشكر، ثمَّ إنَّ الشاعر تابع شكره وقطع المعطي عطيَّته فصار الشكر نامياً زائداً وصار المعطي المبتدئ متخلِّفاً تالياً. ألا ترَى أنَّ مسلماً قال: " فلمَّا تمادَى جريُنا صرتَ تالِيا " أي لمَّا أقمتُ أنا على الشكر وقطعت أنت النعمة سبقتُ أنا وصلَّيتَ أنت، وكذلك أيضاً قال ابن المعذّل: " حتَّى إذا امتدَّ المدَى بيننا جاء المصلّى وهو السابقُ " والدليل على صحة قولنا إنَّ مسلماً قال:
فأقسمتُ لا أُجزيكَ بالسُّوءِ مثله ... كفَى بالَّذي جازَيْتَنا لك جازِيا
هذا دليل واضح فمسلم وابن المعذّل جعلا الشكر ثمناً للبرّ، وإذا انقطع عنهما البرّ قطعا الشكر، وممن فضَّل البرّ على الشكر الشاعر بقوله:
بأبي شكري قليل ... وأياديك كثيرَهْ
لم يقلْ فيكَ لسانِي ... قطّ فاستوفَى ضميرَهْ
وممَّن فضَّل الشكر على النعمة الأخطل بقوله:
أبني أميةَ إن أخذتُ كثيرَكمُ ... دون الأنام فما أخذتم أكثَرُ
أبني أميةَ لِي مدائحُ فيكم ... تُنسَوْنَ إن طالَ الزَّمان وتُذكرُ
ويروى أن ابنة زهير بت أبي سلمى حضرت موضعاً فيه ابنة هرم بن سنان، فقيل لها: هذه ابنة زهير، فقالت لها: أخذ أبوك من أبي أموالاً جمَّةً، فقالت لها ابنة زهير: أخذ أبي مالاً يفنَى وأعطَى أباك ذكراً يبقَى وثناء يروَى، فقطعتها، والَّذي قيل في الشكر أكثر من أن يحويه كتاب أو يدركه إحصاء وإنَّما ذكرنا في هذا الموضع منه ما روينا وأثبتنا ما عرفناه وتجنَّينا الكثير المشهور والمستفيض المعروف.
وقال بشامة بن عمرو بن هلال، وهو خال زهير:
هجرتَ أُمامةَ هجراً طويلا ... وأعْقَبك النَّأيُ عِبئاً ثقيلا
وحُمِّلتَ منها على بُعدها ... خَيالاً يُوافي قليلاً قليلا
ونظرةَ ذي شجَن وامِقِ ... إذا ما الركائبُ جاوزنَ مِيلا
أتَتْنا لتُسائلُ عن بثّنا ... فقلنا لها قد عَزَمْنا الرَّحيلا
فبادرَتاها بمُسْتعجل ... من الدمع ينضَحُ خدّاً أسِيلا
وما كانَ أكثر ما تولَّتْ ... من القَول إلاَّ صِفاحاً وقيلا
وقرَّبتُ للرَّحل عَيرانَةً ... عُذافِرةً عنتَريساً ذمُولا
مُداخلَةَ الخَلق مضبورةً ... إذا أَخذَ الخافقاتُ المقِيلا
إذا أقبلتْ قلتَ مَذعورةً ... من الرُّبد تلحق هيقا ذَمُولا
وأن أدبرت قلت مشحونة ... أطاعَ لها الرِّيحُ فَلْغا جَفُولا
كأنَّ يدَيها إذا أرقلتْ ... وقد جرت ثم اهتدينا للسبيلا
يدَا عائم خرَّ في غَمرةٍ ... فدَاركه الموتُ إلاَّ قلِيلا
وحُبرْتُ قومي ولم ألْقَهُم ... أَجدُّوا على ذي شُوَيس جلُولا
وإمَّا هلكتُ ولم آتِهِمْ ... فأبلِغْ أَمائلَ سَهمٍ رَسُولا
بأنْ قومُكم خُيِّروا خصلَتَيْ ... نِ كلتاهما جعلوها عدُولا
فخِزيُ الحياة وخِزي المماتِ ... وكلا أراه طعاماً وبِيلا
فإلاَّ يكنْ غيرُ إحداهُما ... فسِيروا إلى الموتِ سيراً جمِيلا
ولا تَقعدوا وبكم منَّةٌ ... كفَى بالحوادثِ للمرءِ غُولا
وحُشُّوا الحروبَ إذا أُوقدَتْ ... رِماحاً طوالاً وخَيلاً فحُولا
ومِن نَسج داؤد موضونةً ... ترَى للقواضيبِ فيها صليلا
أما قوله في سير الناقة: " كأنَّ يديها إذا أرقلت " البيت، وقوله: " يدا عائم " البيت فمعنى جيد نادر، وقد أكثرت الشعراء في سرعة السير ونحن نذكر ممَّا قالوا ههنا طرفاً إن شاء الله، فمن ذلك قول الشاعر:
كأنَّ يديها إذا أرقلَت ... وصام النَّهارُ يدَا ملتدم
ومن جيد ما قيل في سرعة أيدي الإبل ما يروى لبعض شعراء الموصل:
كأنَّما طيّ الطَّريق الأطول ... ما بين أَيديها وبين الأرجُلِ
طيّ كتاب في يدَي مستَعجل
وقال رؤبة:
كأنَّ أيديهنَّ بالقاعِ القَرِقْ ... أيدي جوارٍ يتناهَبْنَ الورِقْ
وقال المثقَّب العبديّ:
كأنَّما رجعَ يدَيها إلى ... حَيزومِها فوقَ حصَى الجَدْجَدِ
نوحُ ابنة الجَون على هالِك ... تندُبُه رافعة المجلدِ
وقال الآخر:
كأنَّ يدَيها حين يقلق ظفرها ... يدَا نَصَفٍ غَيْرَى تعذَّرُ مِن جُرْمِ
ومثل هذا البيت قول الآخر:
كأنَّ يديها إذا أرقلتْ ... يدا ذاتِ ضِغن تريغ السباما
وقال جرير:
كأنَّ العرمس الوجناء منها ... عجول خرمت عنها صِدارا
ومن أجود ما قيل في هذا المعنى قول ابن أحمر:
إذا بركتْ خوَّتْ على ثَفِناتِها ... مجافيةً صُلباً كقنطرة الجسرِ
كأنَّ يدَيها حين جدَّ نجاؤُها ... طريدان والرِّجْلانِ طالِبَتا وِتْرِ
ولا نعرف في سرعة المشي أجود من هذين البيتين، وقال آخر:
كأنَّ يدَيها يدَا ماتِحٍ ... مُدِلٍّ إلى يوم وردٍ ورودا
يخاف العقابُ وفي نفسِه ... إذا هو أصدَرَ ألاَّ يَعُودا
وقال آخر:
كأنَّ ذراعَيها ذراعا بذية ... مفجّعةٍ لاقَتْ حلائلَ عنْ عُفْرِ
سمِعنَ لها واسْتَفْرَغَت في حديثها ... فلا شيء يَفري باليدين كما تَفْرِي
ومثله:
كأنَّ ذراعَيها ذراعا مُدلَّةٍ ... بعيد السِّبابِ حاولَتْ أن تعذرا
وقال آخر:
كأنَّ ذراعَيها وقد خبطت به ... وجوهَ الدُّجَى والبيد كفَّا مُلاطِمِ
وقال آخر:
عفرناةٌ كأنَّ سدى يدَيها ... إذا شُنِقَت وأوجعَها القَفارُ
يدا نوَّاحة ثكلت أباها ... تشقَّقَ عن ترائبها الصِّدارُ
آخر:
كأنَّ أيديَهُنَّ في المَوْماةِ ... أيدي عذارَى بين مُعوِلاتِ
ومثل هذا البيت الأخير:
كأنَّ يدَيها حين جدَّ نجاؤها ... يدا معوِلٍ خرقاء تسعد مأتَمَا
تُرائي الَّذين حولَها وهْيَ ليها ... رخِيّ ولا تبكي بشجو فَتيلما
يقول في هاتين القطعتين إنَّ هذه الباكية غير حزينة ولكنَّها ترائي من هبل، وهو اشد لتحريك يديها لتُشكر على ذلك وإن كان قلبها خليّاً من توجع المصيبة، وشبيه بهذا المعنى الَّذي تكلمنا عليه، لا الأول، قول بعض شعراء العرب يذكر النوائح، وإنَّ بكاءهنَّ ولطمهنَّ الصدور والخدود مُراءاةً لا لفجيعة، وهو:
وهيَّج وجد الناعجات عشيَّة ... نوائحُ أمثالُ النعامِ النوافِرِ
بكى الشجو ما دون اللَّهَى من حلوقها ... ولم يبكِ شجواً ما وراءَ الحناجِرِ
وما يعرف في ذكر النوائح أحسن من هذا ولا أبدع إصابة معنى وجودةَ لفظ، ومن المعنى الأول في سرعة السير قول الشاعر:
قطعت قيعانها بقلقلِهْ ... تلعب في البيدِ بالحصَى يدُها
وقال أبو نواس:
ما رِجلُها قفَا يدِها ... رِجْلُ وليدٍ يلهو بدبُّوقِ
وقال آخر:
خُوص نواجٍ إذا صاحَ الحُداةُ بها ... رأيتَ أرجُلَها قدَّامَ أيدِيها
وهذا البيت من الإغراق المتفاوت، وهو من أحسن ما نعرف في هذا الباب، وقد ذكرنا من هذا المعنى شيئاً وبقيت أشياء تأتي إن شاء الله.
حاول الشعراء أن يأتوا بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلّم في البراق وهو يضع حافره منتهى بصره، فما بلغوه.
قال الشنفرى من قصيدة:
لعمرك ما بالأرضِ ضيقٌ على امرئٍ ... سرَى راغباً أو راهباً وهْوَ يعقِلُ
إذا مُدَّتِ الأيدي إلى الزَّادِ لم أكنْ ... بأعجَلِهم إذا أجشَعُ القومِ أَعجلُ
وما ذاك إلاَّ بسطةٌ من تطوّلٍ ... عليهم وكانَ الأفضلَ المتطوِّلُ
وأستفُّ تُربَ الأرض كي لا يرَى له ... عليَّ من الفضلِ امرؤٌ متفضِّلُ
ولولا اتّقاء الذّلّ لم يلف مَشربٌ ... يُعاشُ به إلاَّ لدَيَّ ومأكَلُ
ولكنَّ نفساً حرَّةً لا تُقيمُ بي ... على الخَسفِ إلاَّ رَيثما أتحوَّلُ
وفي الأرضِ منأى للكريمِ عن الأذَى ... وفيها لمَن رامَ القِلَى متعزَّلُ
وهذه القصيدة كثيرة المحاسن، وقد قدمنا ذكر شيء منها في صدر كتابنا هذا، ونحن نذكر منها بعد هذا الاختيار أشياء أُخر في مواضعها.
أما قوله: " ولكن نفساً حرَّة " البيت، " وفي الأرض منأى " البيت، فهو معنى قد أكثرت الشعراء فيه، ونحن نذكر منه شيئاً، والأصل في هذا امرؤ القيس بقوله:
وإذا أُذيتُ ببلدة ودَّعتُها ... إذ لا أُقيمُ بغير دار مُقامِ
فأخذه لبيد فقال:
أو لم تكن تدري نوار بأنَّني ... وصَّالُ عقد حبائلٍ جذامُها
نزَّالُ أمكنةٍ إذا لم أرْضَها ... أو يعتلِق بعض النُّفوس حِمامُها
وقال جرير:
وإنِّي لعفّ الفَقر مُشتركُ الغِنَى ... سريعٌ إذا لم أرضَ داري احتماليا
وقال أوس بن حَجَر:
أُقيمُ بدار الحزم ما دام حزمُها ... وأحرِ إذا حالَت بأنْ أتحوَّلا
وقال:
احذَرْ محلَّ السوءِ لا تحلُلْ به ... وإذا نبَا بكَ منزلٌ فتحوَّلِ
ويروى أنَّ هبنَّقة القيسي، الَّذي يحمَّق، سمع منشداً ينشد هذا البيت، فقال: أخطأ القائل، قيل له: ولِمَ؟ قال: لأنَّ أهل السجون قد نبا بهم منزلهم ولا يقدرون على التحوّل، ولكنَّ الصَّواب أن يقول:
إذا كنت في دارٍ يهينك أهلُها ... ولم تكُ مكبولاً بها فتحوَّلِ
وقد أتى الراعي بهذا المعنى فقال:
لا خير في طولِ الإقامة لفتَى ... إلاَّ إذا ما لم يجد متحوّلا
وقال آخر:
أُقيمُ بالدَّار ما اطمأنَّت بي الدَّا ... رُ وإن كنتُ نازعاً طربا
وأيُّ أرض نبت بي الدَّارُ عجَّلْ ... تُ إلى غير أهلها الهربا
قال آخر:
ودار هوان أنفتُ المقام ... بها فحللتُ محلاً كريما
وقال مسكين الدارميّ:
أُقيمُ بدار الحيّ ما لم أُهَنْ بها ... وإنْ خفتُ من دارٍ هواناً تركتُها
آخر:
وكنتُ إذا دارٌ نبَتْ بي تركتها ... لغيري ولم أقعدْ على شرِّ مقعدِ
آخر
فإن تُنصِفونا يالَ مروانَ نقتربْ ... إليكم وإلاَّ فأذَنُوا ببعادِ
فإنَّ لنا عنكم مراحاً ومرحلا ... بعيس إلى ريح الفلاةِ صوادِي
وفي الأرض عن دار القلى متحوّل ... وكلّ بلاد أوطِئَتْ كبلادِي
وقال عبد الله بن الحسن:
فإن بنتِ عنّي أو تُرد لي إهانةً ... أجِدْ عنكِ في الأرض العريضة مذهبا
فلا تحسبنَّ الأرض باباً سدَدْتهِ ... عليَّ ولا المصرَين أُمّاً ولا أبا
آخر:
لا خيرَ في بلد يُضام نزيلُه ... وعن الهوان مذاهب ومنادِحُ
آخر:
فإن بلدة أعيا عليَّ طلابُها ... صرفتُ لأخرى رحلتي وركابي
آخر:
فإذا الديار تنكرتْ عن أهلها ... فدعِ الديارَ وأسرعِ التحويلا
ليس المقامُ عليك حَتماً واجباً ... في منزل يدعُ العزيزَ ذليلا
وقال أبو تمّام الطائي:
فإن صريح الرأي والحزم لامرئٍ ... إذا بلغتْهُ الشمسُ أن يتحوَّلا
وقال سعيد بن هاشم الخالديّ:
غيري أقامَ بدار مَضْيعَةٍ ... ولسانهُ عَضْبٌ ومُنصَلهُ
وقال آخر:
إذا ما الرَّقتانِ تجافياني ... فما الدُّنيا عليَّ الرقَّتان
سيُنصفني صديق من صديقٍ ... ويحملني مكانٌ عن مكانِ
آخر:
وقد عَجَنتْ منّي الخطوبُ ابنَ حُرَّةِ ... متى ما مرَتْه منزلَ السوء يرحلِ
هذا الباب متَّسع، وقد ذكرنا منه ها هنا قطعة صالحة إلى أن نحتاج إلى ذكر شيء منه بعد هذا الموضع فنذكره.
قال العوَّام بن عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سُلمى:
وخُبِّرتُ ليلى بالعراقِ مريضة ... فأقبَلْتُ من مصرٍ إليها أعودُها
هذا البيت تناحرَ الشعراء فيه:
فوالله ما أدري إذا أنا جِئْتُها ... أأبْرِئها من دائها أم أزيدُها
ألا ليتَ شعري هل تغيَّرَ بعدَنا ... ملاحةُ عَينَي أمّ يحيَى وجيدُها
وهل أخلقَتْ أثوابُها بعد جدَّة ... ألا حبَّذا خُلقانُها وجديدُها
خليليَّ قوماً بالعمامةِ واعصبا ... على كبدٍ لم يبق إلاَّ عميدُها
ولن يلبث الواشون أن يصدعوا العصا ... إذا لم يكن صلباً على البرْيِ عودُها
لقد كنتُ جلْداً قبل أن توقِدَ النَّوى ... على كبدي ناراً بطيئاً خُمودُها
ولو تُرِكتْ نارُ الهوَى لتضَرَّمتْ ... ولكنَّ شوقاً كلَّ يوم يزيدُها