وأما قوله: " كأنَّ على أشداقه " البيت فقد تقدَّمت نظائره، ومن هذا المعنى في ذكر الحمام وليس فيه ذكر الصَّقر بل ذِكر رامٍ رمَى فأصاب، قول محمد بن يزيد الحِصنيّ:
أشاقكَ برقٌ أم شجَتْك حمامةٌ ... لها فوقَ أغصان الأراكِ نَئيمُ
أضافَ إليها الهمّ فقدانُ آلفٍ ... وليلٌ يسدُّ الخافقَين بَهيمُ
أنافتْ على ساقٍ بليلٍ فرجَّعتْ ... وللوجدِ منها مُقعدٌ ومُقيمُ
تَميدُ إذا ما الغصنُ مادتْ مُتونهُ ... كما مادَ من ريِّ المُدام نديمُ
فباتتْ تُناديه وأنَّى يُجيبُها ... مَنوطٌ بأطراف الجناحِ سَهيمُ
رَماه فأصْماهُ فطارتْ ولم يطرْ ... فظلَّ لها ظلٌّ عليه يحومُ
قرينةُ إلفٍ لم تفارقهُ عن قلًى ... غداةَ غدَا يومٌ عليه مشومُ
وراحتْ بهمٍّ لو تضمَّنَ مثلهُ ... حشَى آدميٍّ راحَ وهْوَ رميمُ
فللبرقِ إيماضٌ وللدَّمعِ واكفٌ ... وللرِّيحِ من نحو العراقِ نسيمُ
وللطَّائرِ المحزون نغمٌ كأنَّها ... على كبدِ الصِّبّ المُحبِّ كلومُ
غناءٌ يروعُ المُنصتينَ وتارةً ... بكاءٌ كما يبكِي الحميمَ حميمُ
فطوراً أشيمُ البرقَ أين مصابُه ... وطوراً إلى إعوالِ تلك أهيمُ
ومن دونِ ذا يشتاقُ من كانَ ذا هَوى ... ويعزُبُ عنه الحلمُ وهْوَ حليمُ
عِكرمة بن مُخاشن البلويّ:
دعتْ فوقَ ساقٍ دعوةً لو تناولتْ ... بها الصّمَّ من أعلى أبانٍ تحدَّرا
تُبكِّي بعينٍ تجري دموعُها ... ولكنَّها تُجري الدُّموع تذكُّرا
مُحلاّةُ طوقٍ ليس يُخشَى انْفِصامهُ ... وصدرٌ كمقطوفِ البنفسج أخْضَرا
تنازعُها ألوانُ شقرٍ صقالُها ... ترَى لتَلالي الشَّمس فيها تحيُّرا
فما نعرف في هذا المعنى أحسن منه ولا أصحّ تشبيهاً لمن تأمَّله ووقف عليه، وما نعرف له نظيراً فنورده، لقد تأتَّى لهذا الأعرابيّ تشبيهٌ حسنٌ صحيحٌ.
وأمَّا قوله: " تنازعها ألوان شُقر " البيت، فإليه نظر البحتري بقوله:
إذا قابلَتْه الشَّمسُ ردَّ ضياءهَا ... عليها صقالُ الأقحُوان المنوِّرِ