وبضم الهاء، وتنوين الراء، على أن يجعله مفعولاً بفعل مضمر؛ أي: أقال هُجْرًا. وقد روي في غير "الأم": هَجَرَ بلا استفهام. والهجر: يراد به هذيان المريض، وهو: الكلام الذي لا ينتظم، ولا يعتد به لعدم فائدته. ووقوع مثل هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال مرضه أو صحته محال لأن الله تعالى حفظه من حين بعثه إلى حين قبضه عمَّا يُخِلّ بالتبليغ. ألا تسمع قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} النجم3و4 وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر9.
وقد شهد له بأنه على صراط مستقيم، وأنه على الحق المبين، إلى غير ذلك؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:"خذوا عني في الغضب والرضا، فإني لا أقول على الله إلا حقًّا " (?). ولمَّا علم أصحابه هذا: كانوا يأخذون عنه ما يقوله في كل حالاته، حتَّى في هذه الحالة، فإنهم تلقَّوا عنه، وقبلوا منه جميع ما وصَّى به عند موته، وعملوا على قوله: "لا نورث" (?)، ولقوله:" أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" (?)، و" أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم " (?)، إلى غير ذلك. ولم يتوقفوا، ولا شكُّوا في شيء منه. وعلى هذا: يستحيل أن يكون قولهم: أَهَجَرَ، لشكٍّ عرض لهم في صحة قوله زمن مرضه، وإنَّما كان ذلك من بعضهم على جهة الإنكار على من توقف في إحضار الكتف والدواة، وتلكَّأ عنه، فكأنه يقول لمن توقف: كيف تتوقف، أتظن: أنه قال هذيانًا؟ فدع التوقف وقرِّب الكتفَ، فإنه إنما يقول الحق، لا الْهَجَرَ. وهذا أحسنُ ما يحمل ذلك عليه. فلو قدَّرنا: أن أحدًا منهم قال ذلك عن شكٍّ عرض له في صحَّة قوله؛ كان خطأ منه. وبعيدٌ أن يقرَّه على ذلك القول من كان هناك ممن سمعه من خيار الصحابة، وكبرائهم، وفضلائهم. هذا تقديرٌ بعيدٌ، ورأيٌّ غير سديد. ويحتمل: أن يكون هذا صدَرَ عن قائله عن دهشٍ وحيرةٍ أصابه في ذلك المقام العظيم، والمصاب الجسيم ". (?) إنتهى كلام القرطبي.
قلت: وتوجيه القرطبي رحمه الله لقول من قال: هجر على ثلاثة أوجه:
الأول: على المعنى اللغوي العام (الهذيان)،وقد استبعده، وهو قول الأمة بالإجماع.
الثاني: قالها جماعة استفهاماً إنكارياً لمن تلكأ عن إنفاذ أمر الكتابة. وحسنه القرطبي.