وَأهل الرَّأْي من كل أمة وكل قرن يذهبون إِلَى تَرْجِيح الْمصلحَة على الطِّبّ ويرون من لَا يتحراها وَلَا يتَقَيَّد بهَا ميلًا إِلَى صِحَة الْجِسْم فَاسِقًا مَاجِنًا مذموما مقبوحا لَا اخْتِلَاف لَهُم فِي ذَلِك، وَقد علمنَا الله تَعَالَى ذَلِك حَيْثُ قَالَ:
{فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما}
نعم تنَاول الْمُسكر إِذا لم يبلغ حد الاسكار وَلم تترتب عَلَيْهِ الْمَفَاسِد يخْتَلف فِيهِ أهل الرَّأْي، والشريعة القومية المحمدية - الَّتِي هِيَ الْغَايَة فِي سياسة الْأمة. وسد الذرائع. وَقطع احْتِمَال التحريف - نظرت إِلَى أَن قَلِيل الْخمر يدعوا إِلَى كثيرها، وَأَن النَّهْي على الْمَفَاسِد من غير أَن ينْهَى عَن ذَات الْخمر لَا ينجع فيهم، وَكفى شَاهدا على ذَلِك مَا كَانَ فِي الْمَجُوس وَغَيرهم وَأَنه أَن فتح بَاب الرُّخْصَة فِي بَعْضهَا لم تنظيم السياسة الملية أصلا فَنزل التَّحْرِيم إِلَى نوع الْخمر قليلها وكثيرها.
وَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لعن الله الْخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومتباعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إِلَيْهِ ".
أَقُول: لما تعيّنت الْمصلحَة فِي تَحْرِيم شَيْء وإخماله وَنزل الْقَضَاء بذلك وَجب أَن ينْهَى عَن كل مَا يُنَوّه أمره ويروجه فِي النَّاس ويحملهم عَلَيْهِ فَإِن ذَلِك مناقضة للْمصْلحَة ومناوأة بِالشَّرْعِ.
وَقد استفاض عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم أَحَادِيث كَثِيرَة من طرق لَا تحصى وعبارات مُخْتَلفَة، فَقَالَ: الْخمر من هَاتين الشجرتين النَّخْلَة والعنبه " وَأجَاب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سَأَلَ عَن البتع والمزر وَغَيرهمَا، فَقَالَ: " كل شراب أسكر فَهُوَ حرَام " وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام:
" كل مُسكر خمر وكل مُسكر حرَام وَمَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام وَمَا أسكر مِنْهُ الْفرق فملء الْكَفّ مِنْهُ حرَام "، وَقَالَ: " من شَاهد
نزُول الْآيَة إِنَّه قد نزل تَحْرِيم الْخمر وَهِي من خَمْسَة أَشْيَاء الْعِنَب. وَالتَّمْر. وَالْحِنْطَة. وَالشعِير. وَالْعَسَل وَالْخمر مَا خامر الْعقل " وَقَالَ: " لقد حرمت الْخمر حِين حرمت " وَمَا نجد خمر الأعناب إِلَّا قَلِيل وَعَامة خمرنا الْبُسْر وَالتَّمْر وكسروا دنان الفضيخ حِين نزلت وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قوانين