وتفصيل ذَلِك أَنه لَا بُد من التعيش بقوت مَا من الأقوات، والتمسك بِنَقْد مَا من النُّقُود، وَالْحَاجة إِلَى الأقوات جَمِيعهَا وَاحِدَة، وَالْحَاجة إِلَى النُّقُود جَمِيعهَا وَاحِدَة، ومبادلة إِحْدَى القبيلتين بِالْأُخْرَى من أصُول الارتفاقات الَّتِي لَا بُد للنَّاس مِنْهَا، وَلَا ضَرُورَة فِي مُبَادلَة شَيْء بِشَيْء يَكْفِي كِفَايَته، وَمَعَ ذَلِك، فَأوجب اخْتِلَاف أمزجتهم وعاداتهم أَن تَتَفَاوَت مَرَاتِبهمْ فِي التعيش، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{نَحن قسمنا بَينهم معيشتهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ورفعنا بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات ليتَّخذ بَعضهم بَعْضًا سخريا} .
فَيكون مِنْهُم من يَأْكُل الْأرز وَالْحِنْطَة، وَمِنْهُم من يَأْكُل الشّعير والذرة، وَيكون مِنْهُم من يتحلى بِالْفِضَّةِ.
وَأما تميز النَّاس فِيمَا بَينهم بأقسام الْأرز وَالْحِنْطَة مثلا وَاعْتِبَار فضل بَعْضهَا على بعض، وَكَذَلِكَ اعْتِبَار الصناعات الدقيقة فِي الذَّهَب وطبقات عياره، فَمن عَادَة المسرفين والأعاجم، والامعان فِي ذَلِك تعمق فِي الدُّنْيَا، فالمصلحة حاكمة بسد هَذَا الْبَاب، وتفطن الْفُقَهَاء أَن الرِّبَا الْمحرم يجْرِي فِي غير الْأَعْيَان السِّتَّة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا، وَأَن الحكم مُتَعَدٍّ مِنْهَا إِلَى كل مُلْحق بِشَيْء مِنْهَا، ثمَّ اخْتلفُوا فِي الْعلَّة.
والأوفق بقوانين الشَّرْع أَن تكون فِي النَّقْدَيْنِ الثمينة، وتختص بهما، وَفِي الْأَرْبَعَة المقتات المدخر، وَأَن الْملح لَا يُقَاس عَلَيْهِ الدَّوَاء والتوابل
لِأَن للطعام إِلَيْهِ حَاجَة لَيست إِلَى غَيره، وَلَا عشر تِلْكَ الْحَاجة، فَهُوَ جُزْء مقوت وبمنزلة نَفسه دون سَائِر الْأَشْيَاء، وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إِلَى ذَلِك لِأَن الشَّرْع اعْتبر الثمينة فِي كثير من الاحكام كوجوب التَّقَابُض فِي الْمجْلس، ولان الحَدِيث ورد بِلَفْظ الطَّعَام، وَالطَّعَام يُطلق فِي الْعرف على مَعْنيين: أَحدهمَا الْبر وَلَيْسَ بِمُرَاد، وَالثَّانِي المقتات المدخر، وَلذَلِك يَجْعَل قسيما للفاكهة والتوابل، وَإِنَّمَا أوجب التَّقَابُض فِي الْمجْلس لمعنيين، أحمدهما الطَّعَام والنقد الْحَاجة إِلَيْهِمَا أَشد الْحَاجَات وأكثرهما وقوعا، وَالِانْتِفَاع بهما لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالإفناء والإخراج من الْملك، وَرُبمَا ظَهرت خُصُومَة عِنْد الْقَبْض وَيكون الْبَدَل قد فنى، وَذَلِكَ أقبح المناقشة، فَوَجَبَ أَن يسد هَذَا الْبَاب بألا يَتَفَرَّقَا إِلَّا عَن قبض، وَلَا يبْقى بَينهمَا شَيْء، وَقد اعْتبر الشَّرْع هَذِه الْعلَّة فِي النَّهْي عَن بيع الطَّعَام قبل أَن يسْتَوْفى، وَحَيْثُ قَالَ فِي اقْتِضَاء الذَّهَب من الْوَرق: " مَا لم تتفرقا وبينكما شَيْء "، وَالثَّانِي إِنَّه إِذا كَانَ النَّقْد فِي جَانب وَالطَّعَام أَو غَيره فِي جَانب، فالنقد وَسِيلَة لطلب الشَّيْء كَمَا هُوَ مُقْتَضى النقدية، فَكَانَ حَقِيقا بِأَن يبْذل قبل الشَّيْء، وَإِذا