وَفِيمَا يعرف بِهِ رضَا الْعَاقِدين أَن يكون أمرا وَاضحا يُؤَاخذ بِهِ على عُيُون النَّاس، وَلَا يَسْتَطِيع أَن يَحِيف إِلَّا بِحجَّة عَلَيْهِ، وأوضح الْأَشْيَاء فِي مثل ذَلِك الْعبارَة بِاللِّسَانِ، ثمَّ التعاطي بِوَجْه لَا يبْقى فِيهِ ريب.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْمُتَبَايعَانِ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ على صَاحبه مَا لم يَتَفَرَّقَا إِلَّا بيع الْخِيَار " أَقُول اعْلَم أَنه لَا بُد من قَاطع يُمَيّز حق كل وَاحِد من صَاحبه، وَيرْفَع خيارهما فِي رد البيع، وَلَوْلَا ذَلِك لأضر أَحدهمَا بِصَاحِبِهِ، ولتوقف كل عَن التَّصَرُّف فِيمَا بِيَدِهِ خوفًا أَن يستقيلها الآخر، وَهَهُنَا شَيْء آخر، وَهُوَ اللَّفْظ الْمعبر عَن رضَا الْعَاقِدين بِالْعقدِ وعزمهما عَلَيْهِ، وَلَا جَائِز أَن يَجْعَل الْقَاطِع ذَلِك لِأَن مثل هَذِه الْأَلْفَاظ يسْتَعْمل عِنْد التراوض والمساومة، إِذْ لَا يُمكن أَن يتراوضا إِلَّا بِإِظْهَار الْجَزْم بِهَذَا الْقدر، وَأَيْضًا فلسان الْعَامَّة فِي مثل هَذَا تِمْثَال الرَّغْبَة من قُلُوبهم، وَالْفرق بَين لفظ دون لفظ حرج عَظِيم، وَكَذَلِكَ التعاطي فَإِنَّهُ لَا بُد لكل وَاحِد أَن يَأْخُذ مَا يَطْلُبهُ على أَنه يَشْتَرِيهِ، لينْظر فِيهِ، ويتأمله، وَالْفرق بَين أَخذ وَأخذ غير يسير، وَلَا جَائِز أَن يكون الْقَاطِع شَيْئا غير ظَاهر، وَلَا أَََجَلًا بَعيدا يَوْمًا فَمَا فَوْقه؛ إِذْ كثير من السّلع إِنَّمَا يطْلب، لينْتَفع بِهِ فِي يَوْمه، فَوَجَبَ أَن يَجْعَل ذَلِك التَّفَرُّق من مجْلِس العقد، لِأَن الْعَادة جَارِيَة بِأَن الْعَاقِدين يَجْتَمِعَانِ للْعقد، ويتفرقان بعد تَمَامه، وَلَو تفحصت طَبَقَات النَّاس من الْعَرَب والعجم رَأَيْت أَكْثَرهم يرَوْنَ رد البيع بعد التَّفَرُّق جورا وظلما، لَا قبله، اللَّهُمَّ إِلَّا من غير فطرته، وَكَذَلِكَ الشَّرَائِع الإلهية لَا تنزل إِلَّا بِمَا تقبله نفوس الْعَامَّة قبولا أوليا، وَلما كَانَ من النَّاس من يتسلل بعد العقد يرى أَنه قد ربح، وَيكرهُ أَن يستقيله صَاحبه، وَفِي ذَلِك قلب الْمَوْضُوع - سجل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْي عَن ذَلِك فَقَالَ:
" وَلَا يحل لَهُ أَن يُفَارق صَاحبه خشيَة أَن يستقيله، فوظيفتهما أَن يَكُونَا على رسلهما، ويتفرق كل وَاحِد على عين صَاحبه.
وَاعْلَم أَنه إِذا اجْتمع عشرَة آلَاف إِنْسَان مثلا فِي بَلْدَة فالسياسة المدنية تبحث عَن مكاسبهم، فَإِنَّهُم إِن كَانَ أَكْثَرهم مكتسبين بالصناعات وسياسة
الْبَلدة، والقليل مِنْهُم مكتسبين بالرعي والزراعة فسد حَالهم فِي الدُّنْيَا، وَإِن تكسبوا بعصارة الْخمر وصناعة الْأَصْنَام كَانَ ترغيبا للنَّاس فِي اسْتِعْمَالهَا على الْوَجْه الَّذِي شاع بَينهم فَكَانَ سَببا لهلاكهم فِي الدّين، فان وزعت المكاسب وأصحابها على الْوَجْه الْمَعْرُوف الَّذِي تعطيه الْحِكْمَة، وَقبض على أَيدي المتكسبين بالاكساب القبيحة صلح حَالهم.
وَكَذَلِكَ من مفاسد المدن أَن ترغب عظماؤهم فِي دقائق الْحلِيّ واللباس وَالْبناء