(مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ الْمُتُونَ) أَيْ الْمُتَوَسِّطَ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ لِيَتَأَتَّى لَهُ الِاسْتِنْبَاطُ الْمَقْصُودُ بِالِاجْتِهَادِ، أَمَّا عِلْمُهُ بِآيَاتِ الْأَحْكَامِ وَأَحَادِيثِهَا أَيْ مَوَاقِعِهَا وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا فَلِأَنَّهَا الْمُسْتَنْبَطُ مِنْهُ، وَأَمَّا عِلْمُهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ فَلِأَنَّهُ يَعْرِفُ بِهِ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِنْبَاطِ وَغَيْرِهَا لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَأَمَّا عِلْمُهُ بِالْبَاقِي فَلِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ إلَّا بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ بَلِيغٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِذَلِكَ ارْتِبَاطُهَا بِهِ ارْتِبَاطَ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ.
(قَوْلُهُ: أَيْ الْمُتَوَسِّطَ) أَيْ فَلَا يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ النِّهَايَةَ فِي تِلْكَ الْعُلُومِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يُبَلِّغَ اجْتِهَادَهُ لِلنَّاسِ وَلِذَلِكَ يُرْوَى عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِسَيِّدِي عَبْدِ الْوَهَّابِ الشَّعْرَانِيِّ فِي الْمَطَافِ مِمَّا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ أَنِّي بَلَغْت دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ فَقَالَ لَهُ سَيِّدِي وَلِمَ لَمْ تُظْهِرْهُ فَقَالَ أَخَافُ مِنْ تَشْنِيعِهِمْ عَلَيَّ كَمَا شَنَّعُوا عَلَى السُّيُوطِيّ هَكَذَا رَأَيْت هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَسْطُورَةً بِخَطِّ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ نَقْلًا عَنْ شَيْخِهِ، وَأَظُنُّهَا مَوْضُوعَةً فَإِنَّ بُلُوغَ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ رُبَّمَا تَقْطَعُ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ، وَالْعَلَّامَةُ السُّيُوطِيّ مَعَ تَبَحُّرِهِ فِي الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ أَدَوَاتُ الِاجْتِهَادِ لَمَّا ادَّعَاهُ قَامَ عَلَيْهِ النَّكِيرُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْحَافِظِ السُّيُوطِيّ وَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْوُقُوفِ عَلَى تَآلِيفِهِمَا، وَقَدْ ادَّعَى الْمُصَنِّفُ بُلُوغَ وَالِدِهِ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ فَقَالَ فِي تَرْشِيحِ التَّوْشِيحِ فَإِنْ قُلْت مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ بُلُوغِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ مَرْدُودٌ بِقَوْلِ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ وَقَدْ خَلَا الْعَصْرُ عَنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ، وَهَذَا لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ بَلْ سَبَقَهُ إلَيْهِ الْقَفَّالُ شَيْخُ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ الْوَسِيطِ سَاكِتِينَ عَلَيْهِ قُلْت قَدْ نَظَرْت هَذَا الْكَلَامَ وَفَكَّرْت فِيهِ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ وَمَنْ سَبَقَهُ إلَيْهِ إنَّمَا أَرَادُوا خَلَا عَنْ مُجْتَهِدٍ قَائِمٍ بِأَعْبَاءِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَلِي الْقَضَاءَ فِي زَمَانِهِمْ مَرْمُوقٌ وَلَا مَنْظُورٌ إلَيْهِ بِكَثِيرِ عِلْمٍ بَلْ كَانَتْ جَهَابِذَةُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ يَرْبَئُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ الْقَضَاءِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَعْصَارِ بِخُلُوِّهَا عَنْ مُجْتَهِدٍ هَذَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَالْقَفَّالُ نَفْسُهُ كَانَ يَقُولُ لِلسَّائِلِ فِي مَسْأَلَةِ الصُّبْرَةِ أَتَسْأَلُنِي عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَمْ مَا عِنْدِي وَقَالَ هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَغَيْرُهُمْ لَسْنَا مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ بَلْ مُوَافِقِينَ وَافَقَ رَأْيُنَا رَأْيَهُ فَمَا هَذَا الْكَلَامُ مَنْ يَدَّعِي زَوَالَ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ قَالَتْ طَوَائِفُ لَا يَخْلُو كُلُّ عَصْرٍ عَنْ مُجْتَهِدٍ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ يُعْجِبُنِي فِيهَا قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو الْعَصْرُ عَنْ مُجْتَهِدٍ إلَّا إذَا تَدَاعَى الزَّمَانُ وَقَرُبَتْ السَّاعَةُ، وَهَذَا الْقَرْنُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ قَدْ كَانَ فِيهِ هَذَانِ الرَّجُلَانِ وَهُمَا الْوَالِدُ وَقَبْلَهُ شَيْخُهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَكَانَ مِنْ أَقْرَان ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ مُجْتَهِدٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَمَا اخْتَلَفَ تَلَامِذَةُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي أَنَّهُ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَهَكَذَا لَا يُعْهَدُ عَصْرٌ إلَّا وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ فِيهِ الْحُجَّةَ بِعَالِمٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَنْ تَبْرَحَ حُجَّةُ اللَّهِ قَائِمَةً وَإِنْ تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُ الْقَائِمِينَ وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ ظُهُورُهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ.
(قَوْلُهُ: لِيَتَأَتَّى لَهُ الِاسْتِنْبَاطُ) قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ أَيْ الْمُجْتَهِدِ وَاقِعَةٌ فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ فَعَلَى الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ ثُمَّ عَلَى الْآحَادِ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ لَمْ يَخُضْ فِي الْقِيَاسِ بَلْ يَلْتَفِتُ إلَى ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ فَإِنْ وَجَدَ ظَاهِرًا نَظَرَ فِي الْمُخَصَّصَاتِ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ خَبَرٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَخْصِيصًا حَكَمَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْثُرْ عَلَى لَفْظٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ نَظَرَ إلَى الْمَذَاهِبِ فَإِنْ وَجَدَهَا مَجْمَعًا عَلَيْهَا اتَّبَعَ الْإِجْمَاعَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إجْمَاعًا خَاضَ فِي الْقِيَاسِ، وَيُلَاحِظُ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ أَوَّلًا وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْجُزْئِيَّاتِ كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقِّلِ يُقَدِّمُ قَاعِدَةَ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْآلَةِ فَإِنْ عَدِمَ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً نَظَرَ فِي النُّصُوصِ وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَجَدَهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ أَلْحَقَ بِهِ وَإِلَّا انْحَدَرَ إلَى قِيَاسٍ مُخَيَّلٍ فَإِنْ أَعْوَزَهُ تَمَسَّكَ بِالشَّبَهِ وَلَا يَعُودُ عَلَى طَرْدٍ إنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيَعْرِفُ مَأْخَذَ الشَّرْعِ هَذَا تَدْرِيجُ النَّظَرِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَقَدْ أَخَّرَ الْإِجْمَاعَ عَنْ الْأَخْبَارِ وَذَلِكَ تَأْخِيرُ مَرْتَبَةٍ لَا تَأْخِيرُ عَمَلٍ إذْ الْعَمَلُ بِهِ مُقَدَّمٌ لَكِنَّ الْخَبَرَ يَتَقَدَّمُ فِي الْمَرْتَبَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مُسْتَنِدٌ قَبُولَ الْإِجْمَاعِ، قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ (قَوْلُهُ: أَيْ مَوَاقِعُهَا) أَيْ مَوَاضِعُ ذِكْرِهَا (قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا) فَيَكْفِيهِ فِي أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ الْأُصُولِ