الرَّدِّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قُلْنَا وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى حُجِّيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَ) الصَّحِيحُ (أَنَّهُ) بَعْدَ حُجِّيَّتِهِ (قَطْعِيٌّ) فِيهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَدِيثُ مَقْطُوعًا بِهِ نَقْلًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ نَصًّا فَلَا وَجْهَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي مَظَانِّ الْقَطْعِ اهـ.
وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَطْلَبِ قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] الْآيَةَ وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ كَمَا فِي اللُّغَةِ وَحَيْثُ عَدَّلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَجَبَ عِصْمَتُهُمْ عَنْ الْخَطَأِ قَوْلًا وَفِعْلًا كَبِيرَةً وَلَا صَغِيرَةً.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ عَدَالَةِ الْجَمِيعِ وَأَنَّهُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ كَبِيرَةٌ وَلَا صَغِيرَةٌ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَصْدُرَ عَنْهُمْ الْخَطَأُ الْمُؤَدِّي اجْتِهَادُهُمْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِصْيَانٍ لَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَلَا مِنْ الصَّغَائِرِ وَلِذَا يَكُونُ الْمُجْتَهِدُ مَأْجُورًا وَإِنْ أَخْطَأَ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ إنَّ تَعْدِيلَ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ لَا يُنَافِي صُدُورَ الصَّغِيرَةِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ مِنْ جُمْلَةِ صَغَائِرِهِمْ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْإِصْرَارَ مُنَافٍ لِلْعَدَالَةِ وَالْمُجْمِعُونَ مُصِرُّونَ، وَكَذَا مَا قِيلَ إنَّ الْآيَةَ تُفِيدُ عَدَالَتَهُمْ وَقْتَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُعْتَبَرُ حَالَ الْأَدَاءِ لَا حَالَ التَّحَمُّلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَلَا تَجِبُ عِصْمَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَكُونَ اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لَهُمْ حِينَئِذٍ عَلَى غَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّ الْآيَةَ سَبَقَتْ لِتَمْدَحَهُمْ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ يَكُونُونَ كَذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ ارْتِكَابِ الْخَطَأِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا أَجَابَ بِهِ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ بِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ صَيْرُورَتُهُمْ عُدُولًا فِي الْآخِرَةِ لَقِيلَ سَنَجْعَلُكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْوَاجِبَ الْوُقُوعِ فِي حُكْمِ الْوَاقِعِ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُحَقِّقُ الْعُبْرِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً لَمَا أَجْمَعُوا عَلَى الْقَطْعِ بِتَخْطِئَةِ الْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلِأَنَّ الْعَادَةَ تَحْكُمُ قَطْعًا بِأَنَّ جَمِيعَهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى الْقَطْعِيِّ فِي شَرْعِيٍّ بِمُجَرَّدِ التَّوَاطُؤِ أَوْ ظَنٍّ فَهُنَاكَ قَاطِعٌ بَلَغَهُمْ فَالْمُخَالِفُ مُخْطِئٌ فَالْإِجْمَاعُ حَقٌّ وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَكُمْ أَجْمَعُوا عَلَى تَخْطِئَةِ الْمُخَالِفِ فَيَكُونُ حُجَّةً فِيهِ مُصَابَرَةٌ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلَّ عَلَى نَصٍّ قَاطِعٍ فِي تَخْطِئَةِ الْمُخَالِفِ فَفِيهِ إثْبَاتُ الْإِجْمَاعِ بِنَصٍّ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَهُوَ مُصَادَرَةٌ أَيْضًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ وُجُودُ صُورَةٍ مِنْ الْإِجْمَاعِ يَمْتَنِعُ عَادَةً وُجُودُهَا بِدُونِ ذَلِكَ النَّصِّ سَوَاءٌ قُلْنَا الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ أَمْ لَا، وَلَا خَفَاءَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا إجْمَاعُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ فَغَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ لِاسْتِنَادِهِ لِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَتَعَارُضِ أَنْفُسِنَا، وَاشْتِبَاهُ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ فِيهِ كَثِيرٌ وَمِثْلُهُ إجْمَاعُ الْيَهُودِ عَلَى أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالنَّصَارَى عَلَى أَنَّ عِيسَى قَدْ قُتِلَ؛ لِأَنَّهُ نَاشِئٌ عَنْ اتِّبَاعٍ لِآحَادِ الْأَوَائِلِ وَلَيْسُوا عَلَى ثَبْتٍ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَادَةُ قَاضِيَةٌ بِوُجُودِ خَطَئِهِمْ
أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّ بُخْتَنَصَّرَ قَدْ أَفْنَاهُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلَّا نَزْرٌ قَلِيلٌ لَا يُعْتَدُّ بِنَقْلِهِمْ وَلَا إجْمَاعِهِمْ وَدَفَنَ التَّوْرَاةَ بِالْقُدْسِ وَالْمَوْجُودَةُ الْآنَ مِنْ إمْلَاءِ الْعَزِيزِ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَمْرِ الْفِتْنَةِ.
وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِأَنَّهُ بَعْدَ رَفْعِ السَّيِّدِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَقَعَ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ حَتَّى تَفَرَّقَ الْإِنْجِيلُ إلَى أَرْبَعَةٍ وَهِيَ فِي نُصُوصِهَا مُتَنَاقِضَةٌ، وَلَمْ يَزَلْ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّيَانَاتِ وَاقِعًا حَتَّى الْآنَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُتُبُ التَّوَارِيخِ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ نَقْلُ الثِّقَةِ عَنْ الثِّقَةِ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الِاتِّصَالِ خَصَّ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ سَائِرِ الْمِلَلِ.
وَأَمَّا مَعَ الْإِرْسَالِ وَالْإِعْضَالِ فَيُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْيَهُودِ لَكِنْ لَا يَقْرُبُونَ فِيهِ مِنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قُرْبَنَا مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ يَقِفُونَ بِحَيْثُ يَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُوسَى أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ عَصْرًا، وَإِنَّمَا يَبْلُغُونَ إلَى شَمْعُونَ وَنَحْوِهِ.
وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي صِفَةِ هَذَا النَّقْلِ إلَّا تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ فَقَطْ، وَأَمَّا النَّقْلُ بِالطَّرِيقِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى كَذَّابٍ أَوْ مَجْهُولِ الْعَيْنِ فَكَثِيرٌ فِي نَقْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَمَّا أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَلَا يُمْكِنُ الْيَهُودَ أَنْ يَبْلُغُوا إلَى صَاحِبِ نَبِيٍّ أَصْلًا وَلَا إلَى تَابِعٍ لَهُ وَلَا يُمْكِنُ النَّصَارَى أَنْ يَصِلُوا إلَى أَعْلَى مِنْ شَمْعُونَ وَبُولِصَ اهـ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ إلَخْ) أَيْ فَالرَّدُّ إلَى الْإِجْمَاعِ رَدٌّ إلَى الْكِتَابِ (قَوْلُهُ: قَطْعِيٌّ) أَيْ عَادَةً وَفِي التَّلْوِيحِ ذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا حَتَّى لَوْ أَجْمَعْ الصَّحَابَةُ عَلَى حُكْمٍ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ جَازَ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْقَطْعِيَّ الْمُتَّفِقَ لَا يَجُوزُ