وَإِنْ خُصَّ مِنْ عُمُومِهِ مَا نُسِخَ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ.
(وَ) يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ النَّسْخُ (بِالسُّنَّةِ) مُتَوَاتِرَةً أَوْ آحَادًا (لِلْقُرْآنِ) وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] وَالنَّسْخُ بِالسُّنَّةِ تَبْدِيلٌ مِنْهُ قُلْنَا لَيْسَ تَبْدِيلًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ قَوْله تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] (وَقِيلَ يَمْتَنِعُ) نَسْخُ الْقُرْآنِ (بِالْآحَادِ) ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَقْطُوعٌ، وَالْآحَادُ مَظْنُونٌ قُلْنَا مَحَلُّ النَّسْخِ الْحُكْمُ وَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ ظَنِّيَّةٌ (وَالْحَقُّ لَمْ يَقَعَ) نَسْخُ الْقُرْآنِ (إلَّا بِالْمُتَوَاتِرَةِ) وَقِيلَ وَقَعَ بِالْآحَادِ كَحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَإِنَّهُ نَاسِخُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَوَاتُرِ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ لِلْمُجْتَهِدِينَ الْحَاكِمِينَ بِالنَّسْخِ لِقُرْبِهِمْ مِنْ زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ الشَّافِعِيُّ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَحَيْثُ وَقَعَ) نَسْخُ الْقُرْآنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: وَإِنْ خُصَّ مِنْ عُمُومِهِ إلَخْ) لِأَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي كَمَا مَرَّ فِي مَبْحَثِ التَّخْصِيصِ.
(قَوْلُهُ: لَيْسَ تَبْدِيلًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ) أَيْ بَلْ بِالْوَحْيِ كَمَا قَالَ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] الْآيَةَ فَإِنْ قُلْت: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاجْتِهَادٍ، قُلْت: هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْوَحْيِ حَيْثُ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِرَّهُ عَلَى الْخَطَأِ اهـ. زَكَرِيَّا.
(قَوْلُهُ: مَحَلُّ النَّسْخِ الْحُكْمُ) وَنَسْخُ التِّلَاوَةِ يَرْجِعُ لِنَسْخِ الْحُكْمِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ (قَوْلُهُ: وَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ ظَنِّيَّةٌ إلَخْ) فِيهِ أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الدَّلَالَةُ قَطْعِيَّةً، وَلَوْ قَالَ مَحَلُّ النَّسْخِ اسْتِمْرَارُ الْحُكْمِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ ظَنِّيَّةٌ قَطْعًا، وَهُوَ أَوْفَقُ أَيْضًا بِالنَّسْخِ فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ حَيْثُ جَوَّزُوا تَخْصِيصَ الْقَطْعِيِّ بِالْأَحَادِ، وَلَمْ يُجَوِّزُوا نَسْخَهُ بِهِ قُلْت: الْفَرْقُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ أَنَّ الْمُخْرَجَ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ دَفْعٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِهِ، وَالنَّسْخُ رَفْعٌ وَإِبْطَالٌ لِمَا كَانَ ثَابِتًا وَالْوِجْدَانُ حَاكِمٌ بِأَنَّ الْمُبْطِلَ لَا بُدَّ، وَأَنْ يَكُونَ أَقْوَى أَوْ مُسَاوِيًا بِخِلَافِ الدَّفْعِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِأَدْنَى مَانِعٍ (قَوْلُهُ: وَالْحَقُّ لَمْ يَقَعْ) هَذَا فِي الْوُقُوعِ، وَمَا قَبْلَهُ فِي الْجَوَازِ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ وَقَعَ بِالْآحَادِ) هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ وَكَأَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِمْ فَلِذَا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى نَفْيِ وُقُوعِهِ بِالْآحَادِ اهـ زَكَرِيَّا (قَوْلُهُ: لِقُرْبِهِمْ إلَخْ) أَيْ وَالْقُرْبُ مَظِنَّةُ الْكَثْرَةِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّوَاتُرِ
(قَوْلُهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ) أَيْ فِي الرِّسَالَةِ وَهِيَ تَأْلِيفُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُصُولِ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْأُمِّ بَيَّنَ فِيهَا الْقَوَاعِدَ الْأُصُولِيَّةَ، وَشَرَحَهَا مِنْ أَعْلَامِ مَذْهَبِهِ جَمَاعَةٌ، وَهِيَ سَهْلَةُ الْعِبَارَةِ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِمِلْكِهَا مَعَ قِطْعَةٍ مِنْ الْأُمِّ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَنَصُّ عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبَانَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا نَسَخَ مَا نَسَخَ مِنْ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ لَا نَاسِخَةٌ لِلْكِتَابِ وَإِنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لِلْكِتَابِ بِمِثْلِ مَا نَزَلَ بِهِ فَصَارَتْ مُفَسِّرَةً مَعْنَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْهُ جُمَلًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ وَتَأْخِيرَ إنْزَالِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ قَالَ {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101] وَهَكَذَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ أَحْدَثَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرٍ سَنَّ فِيهِ غَيْرَ مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ سُنَّةً نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا مِمَّا يُخَالِفُهَا وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي سُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ.
فَصَدْرُ عِبَارَةِ الرِّسَالَةِ صَرِيحٌ فِيمَا قَالَهُ الشَّارِحُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ كِتَابَ اللَّهِ إلَّا كِتَابُهُ إلَخْ وَهُوَ خِلَافُ مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَوْ أَحْدَثَ إلَخْ فَهُوَ مَأْخَذُ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ فِي كَلَامِهِ، وَهُوَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ إذَا كَانَ مَعَهُ عَاضِدٌ مِنْ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ الشَّارِحُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْفَهْمِ وَالْوُجُودِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إذَا كَانَ مَعَهَا قُرْآنٌ عَاضِدٌ لَهَا فَمَقِيسٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّارِحُ وَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ إلَخْ إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْحَمْلِ نَظَرًا لِمُنَافَاتِهِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنَّمَا هِيَ تَبَعٌ