قُلْنَا: يَكْفِي لِلنَّسْخِ وُجُودُ أَصْلِ التَّكْلِيفِ فَيَنْقَطِعُ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ النَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ، فَإِنَّ الْخَلِيلَ أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] إلَخْ ثُمَّ نُسِخَ ذَبْحُهُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ فِيهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ مِنْ مُبَادَرَتِهِمْ إلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُوَسَّعًا.
(وَ) يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ (النَّسْخُ بِقُرْآنٍ لِقُرْآنٍ وَسُنَّةٍ) وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] جَعَلَهُ مُبَيِّنًا لِلْقُرْآنِ فَلَا يَكُونُ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا لِلسُّنَّةِ، قُلْنَا: لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ قَوْله تَعَالَى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]
ـــــــــــــــــــــــــــــQاسْتِقْرَارِ التَّكْلِيفِ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ أَصْلِ التَّكْلِيفِ فَإِنْ قِيلَ: لَا فَائِدَةَ لِلتَّكْلِيفِ مَعَ رَفْعِهِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ قُلْنَا: فَائِدَتُهُ الِابْتِدَاءُ لِلْعَزْمِ، وَوُجُوبُ الِاعْتِقَادِ حَيْثُ اعْتَبَرْنَا التَّمَكُّنَ مِنْهُ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ اعْتِبَارِ فَائِدَةِ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَى رِعَايَةِ ظُهُورِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لِلْفِعْلِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا اهـ.
كَلَامُ الشَّارِحِ فِي الْجَوَابِ يُشِيرُ إلَيْهِ نَعَمْ يَرِدُ أَنَّهُ لَا يَشْمَلُ مَا قَبْلَ الْوَقْتِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ أَصْلِ التَّكْلِيفِ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِأَصْلِ التَّكْلِيفِ مَا يَشْمَلُ التَّعْلِيقَ الْإِعْلَامِيَّ، وَيُرَادُ بِأَصَالَتِهِ لَهُ سَبْقُهُ عَلَيْهِ وَكَوْنُهُ كَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ قَوْلُهُ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} [الصافات: 102] إلَخْ أَيْ وَمَنَامُ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَحَيٌّ مَعْمُولٌ بِهِ قَالَ فِي الْأَحْكَامِ: وَأَكْثَرُ وَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمَنَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ وَحَيَّهُ كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بِالْمَنَامِ؛ وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» فَكَانَتْ نِسْبَةُ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ نُبُوَّتِهِ كَذَلِكَ (قَوْلُهُ: بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَفَدَيْنَاهُ} الْآيَةُ) هَذَا دَلِيلُ النَّسْخِ، وَالْمَنْسُوخُ بِهِ هُوَ الْفِدَاءُ فَصِلَةُ النَّسْخِ مَحْذُوفَةٌ، وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَيْ ثُمَّ نُسِخَ ذَبْحُهُ بِالْفِدَاءِ بِسَبَبِ قَوْله تَعَالَى {وَفَدَيْنَاهُ} إلَخْ وَمَا يُقَالُ: إنَّهُ وُجِدَ الذَّبْحُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ ذُبِحَ، وَكَانَ كُلَّمَا قَطَعَ شَيْئًا يَلْتَحِمُ عَقِيبَ الْقَطْعِ أَجَابَ عَنْهُ فِي التَّلْوِيحِ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ وَالظَّاهِرِ، وَلَمْ يَنْقُلْ نَقْلًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَوْ كَانَ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْفِدَاءِ قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ؛ إذْ لَا رَفْعَ هُنَا، وَلَا بَيَانَ لِلِانْتِهَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِخْلَافٌ وَجُعِلَ لِذَبْحِ الشَّاةِ بَدَلًا عَنْ ذَبْحِ الْوَلَدِ؛ إذْ الْفِدَاءُ اسْمٌ لِمَا يَقُومُ مَقَامَ الشَّيْءِ فِي قَبُولِ مَا يُتَوَجَّهُ إلَيْهِ مِنْ الْمَكْرُوهِ يُقَالُ: فَدَتْك نَفْسِي أَيْ قَبِلَتْ مَا يَتَوَجَّهُ إلَيْك مِنْ الْمَكْرُوهِ وَلَوْ كَانَ ذَبْحُ الْوَلَدِ مُرْتَفِعًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى قِيَامِ شَيْءٍ مَقَامَهُ (قَوْلُهُ: خِلَافُ الظَّاهِرِ) فِي التَّلْوِيحِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ كَمَا فِي نَسْخِ الصَّلَوَاتِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الذَّبْحِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِمَانِعٍ مِنْ الْخَارِجِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ قَبْلَ الْفِعْلِ فَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ؛ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُ مَاضٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: كُلُّ نَسْخٍ وَاقِعٍ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا كَانَ يُقَدَّرُ وُقُوعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يَنْعَطِفُ عَلَى مُتَقَدِّمٍ سَابِقٍ بَلْ الْغَرَضُ أَنَّهُ إذَا فُرِضَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِشَيْءٍ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ وَقْتِ اتِّصَالِ الْأَمْرِ بِهِ مَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْ لَا (قَوْلُهُ: مِنْ مُبَادَرَتِهِمْ إلَخْ) بَيَانٌ لِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ.
(قَوْلُهُ: عَلَى الصَّحِيحِ إلَخْ) هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِنَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إلَخْ، وَأَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَالتَّصْحِيحُ مَحَطُّهُ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، قَالَ فِي الْمَنْخُولِ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَنَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ جَائِزٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي زُمْرَةِ الْفُقَهَاءِ اهـ.
(قَوْلُهُ: مُبَيِّنًا لِلْقُرْآنِ) أَيْ بِسُنَّةٍ فَتَكُونُ السُّنَّةُ مُبَيِّنَةً (قَوْلُهُ: مُبَيِّنًا لِلسُّنَّةِ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا لِلسُّنَّةِ، وَالسُّنَّةُ مُبَيِّنَةً لِلْقُرْآنِ لَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبَيِّنًا لِلْآخَرِ وَهُوَ دَوْرٌ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى) فَالذِّكْرُ الْمُنَزَّلُ أَعَمُّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ سُلِّمَ اخْتِصَاصُهُ بِالْقُرْآنِ فَلَا يُنَافِي كَوْنَ السُّنَّةِ أَيْضًا مُنَزَّلَةً؛ إذْ لَا حَصْرَ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْكِتَابَ مُنَزَّلٌ لَفْظًا وَمَعْنًى وَالسُّنَّةُ مُنَزَّلَةٌ مَعْنًى قَالَ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]